( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ( 7 ) وما أدراك ما سجين ( 8 ) كتاب مرقوم ( 9 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 10 ) الذين يكذبون بيوم الدين ( 11 ) وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ( 12 ) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ( 13 ) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( 14 ) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( 15 ) ثم إنهم لصالو الجحيم ( 16 ) ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ( 17 ) )
يقول حقا ( إن كتاب الفجار لفي سجين ) أي إن مصيرهم ومأواهم لفي سجين فعيل من السجن وهو الضيق كما يقال فسيق وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك ولهذا عظم أمره فقال ( وما أدراك ما سجين ) ؟ أي هو أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليم
ثم قد قال قائلون هي تحت الأرض السابعة وقد تقدم في حديث في حديثه الطويل البراء بن عازب يقول الله عز وجل في روح الكافر اكتبوا كتابه في سجين
وسجين هي تحت الأرض السابعة وقيل صخرة تحت السابعة خضراء وقيل بئر في جهنم
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا منكرا لا يصح فقال حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي حدثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطي حدثنا نصر بن خزيمة الواسطي عن شعيب بن صفوان عن عن محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة الفلق جب في جهنم مغطى وأما سجين فمفتوح "
والصحيح أن سجينا مأخوذ من السجن وهو الضيق فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين كما قال تعالى ( ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) التين 5 ، 6 وقال هاهنا ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين ) وهو يجمع الضيق والسفول كما قال [ ص: 350 ] ) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) الفرقان : 13
وقوله ( كتاب مرقوم ) ليس تفسيرا لقوله ( وما أدراك ما سجين ) وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين أي مرقوم مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد قاله محمد بن كعب القرظي
ثم قال ( ويل يومئذ للمكذبين ) أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السجن والعذاب المهين وقد تقدم الكلام على قوله : ( ويل ) بما أغنى عن إعادته وأن المراد من ذلك الهلاك والدمار كما يقال ويل لفلان وكما جاء في المسند والسنن من رواية عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك الناس ويل له ويل له "
ثم قال تعالى مفسرا للمكذبين الفجار الكفرة ( الذين يكذبون بيوم الدين ) أي لا يصدقون بوقوعه ولا يعتقدون كونه ويستبعدون أمره قال الله تعالى ( وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ) أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم في أقواله إن حدث كذب وإن وعد أخلف وإن خاصم فجر .
وقوله ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) أي إذا سمع كلام الله من الرسول يكذب به ويظن به ظن السوء فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل كما قال تعالى ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) النحل 24 وقال ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) الفرقان : 5 قال الله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن أساطير الأولين بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ولهذا قال تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) والرين يعتري قلوب الكافرين والغيم للأبرار والغين للمقربين
وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي من طرق عن وابن ماجه محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبي هريرة كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) . إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت فذلك قول الله (
وقال الترمذي حسن صحيح ولفظ النسائي كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي قال [ ص: 351 ] الله (
وقال أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى أخبرنا ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي هريرة كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) " . إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن (
وقال : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت وكذا قال الحسن البصري مجاهد بن جبر وقتادة وابن زيد وغيرهم .
وقوله ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) أي لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين ثم هم يوم القيامة مع ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم
قال الإمام أبو عبد الله الشافعي في هذه الآية دليل على أن يومئذ . المؤمنين يرونه عز وجل
وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم هذه الآية كما دل عليه منطوق قوله ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) القيامة 22 ، 23 وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرة
وقد قال ابن جرير محمد بن عمار الرازي : حدثنا أبو معمر المنقري حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عن عمرو بن عبيد الحسن في قوله ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) قال يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية أو كلاما هذا معناه
قوله ( ثم إنهم لصالو الجحيم ) أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران ( ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتصغير والتحقير .