قوله تعالى : فإذا برق البصر قرأ نافع وأبان عن عاصم برق بفتح الراء ، معناه : [ ص: 88 ] لمع بصره من شدة شخوصه ، فتراه لا يطرف . قال مجاهد وغيره : هذا عند الموت . وقال الحسن : هذا يوم القيامة . وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر والباقون بالكسر برق ومعناه : تحير فلم يطرف ; قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما . قال : ذو الرمة
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي سافرا كاد يبرق
الفراء والخليل : برق بالكسر : فزع وبهت وتحير . والعرب تقول للإنسان المتحير المبهوت : قد برق فهو برق ; وأنشد الفراء :فنفسك فانع ولا تنعني وداو الكلوم ولا تبرق
لما أتاني ابن عمير راغبا أعطيته عيسا صهابا فبرق
قوله تعالى : وخسف القمر أي ذهب ضوءه . والخسوف في الدنيا إلى انجلاء ، بخلاف الآخرة ، فإنه لا يعود ضوءه . ويحتمل أن يكون بمعنى غاب ; ومنه قوله تعالى : فخسفنا به وبداره الأرض .
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى : ( وخسف القمر ) بضم الخاء وكسر السين يدل عليه والأعرج وجمع الشمس والقمر .
وقال : إذا ذهب بعضه فهو الكسوف ، وإذا ذهب كله فهو الخسوف . أبو حاتم محمد بن إدريس
وجمع الشمس والقمر أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما ، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه ; قاله الفراء والزجاج .
قال الفراء : ولم يقل جمعت ; لأن المعنى جمع بينهما . وقال أبو عبيدة : هو على تغليب المذكر . وقال الكسائي : هو محمول على المعنى ، كأنه قال الضوءان . المبرد : التأنيث غير حقيقي .
وقال ابن عباس : جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران . وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة ( الأنعام ) . وابن مسعود
وفي قراءة عبد الله ( وجمع بين الشمس والقمر ) وقال : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى . وقال عطاء بن يسار علي : يجعلان في نور الحجب . وقد يجمعان في نار جهنم ; لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد ، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم . وابن عباس
وفي مسند عن أبي داود الطيالسي ، يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال [ ص: 89 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وقيل : هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان ، ويقربان من الناس ، فيلحقهم العرق لشدة الحر ; فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم . وقيل : يجمع الشمس والقمر ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار . إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار
أي يقول ابن آدم ، ويقال : قوله تعالى : يقول الإنسان يومئذ أين المفر أبو جهل ; أي أين المهرب ؟ قال الشاعر :
أين المفر والكباش تنتطح وأي كبش حاد عنها يفتضح
قلت : ومنه قول امرئ القيس :
مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
كلا أي لا مفر ف " كلا " رد وهو من قول الله تعالى ، ثم فسر هذا الرد فقال : لا وزر أي لا ملجأ من النار . وكان ابن مسعود يقول : لا حصن . وكان الحسن يقول : لا جبل . يقول : لا ملجأ . وابن عباس : لا محيص ولا منعة . المعنى في ذلك كله واحد . والوزر في اللغة : ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما ; قال الشاعر : وابن جبير
لعمري ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر
ولقد تعلم بكر أننا فاضلو الرأي وفي الروع وزر
ويروى : وقر . إلى ربك يومئذ المستقر أي المنتهى ; قاله قتادة نظيره وأن إلى ربك المنتهى . وقال ابن مسعود : إلى ربك المصير والمرجع . قيل : أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى ; إذ هو الحاكم بينهم . وقيل : إن كلا من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه : كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر .
قوله تعالى : ينبأ الإنسان أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا بما قدم وأخر : أي بما أسلف من عمل سيئ أو صالح ، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده ; قاله ابن عباس . وابن مسعود
وروى منصور عن مجاهد قال : ينبأ بأول عمله وآخره . وقاله . وقال النخعي ابن عباس أيضا : أي بما قدم من المعصية ، وأخر من الطاعة . وهو قول قتادة .
وقال ابن زيد : بما قدم : من أمواله لنفسه . وأخر : خلف للورثة . وقال الضحاك : ينبأ بما قدم من فرض ، وأخر من فرض . قال القشيري : وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال . ويجوز أن يكون عند الموت .
قلت : والأول أظهر ; لما خرجه ابن ماجه في سننه من حديث الزهري ، حدثني أبو عبد الله الأغر عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة وخرجه إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته بمعناه من حديث أبو نعيم الحافظ قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فقوله : بعد موته وهو في قبره نص على أن ذلك لا يكون عند الموت ، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله ، وإن كان يبشر بذلك في قبره . ودل على هذا أيضا قوله الحق : سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره : من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وقوله تعالى : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال . والله أعلم .
وفي الصحيح : كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء سن في الإسلام سنة حسنة . من