الآية الحادية عشرة :
قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=37ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا } .
فيه خمس مسائل :
[ ص: 202 ]
المسألة الأولى : قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=37مرحا } : فيه أربعة أقوال :
الأول : متكبرا . الثاني : بطرا . الثالث : شديد الفرح . الرابع : النشاط . فإذا تتبعت هذه الأقوال وجدتها متقاربة ، ولكنها منقسمة قسمين مختلفين : أحدهما مذموم ، والآخر محمود ; فالتكبر والبطر مذمومان ، والفرح والنشاط محمودان ; ولذلك يوصف الله بالفرح ، ففي الحديث : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=32996لله أفرح بتوبة العبد من رجل } الحديث " والكسل مذموم شرعا ، والنشاط ضده . وقد يكون التكبر محمودا ، وذلك على أعداء الله وعلى الظلمة .
وحقيقة القول في ذلك الآن أن الفرح إذا كان بدنيا وصفات ليس لها في الآخرة نصيب ، أو كان النشاط إلى ما لا ينفع في الآخرة ، ولا يكون في الوجهين جميعا نية دينية للمتصف بهما ; فذلك الذي ذم الله هاهنا . والدليل عليه قوله في :
المسألة الثانية : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=37إنك لن تخرق الأرض } : يعني لن تتولج باطنها ، فتعلم ما فيها ، ولن تبلغ الجبال طولا ، وهي :
المسألة الثالثة : يريد لن تساوي الجبال بطولك ، ولا بطولك ، وإنما تستقبل ما أمامك ; وأي فضل لك في ذلك ؟ والمساواة فيه موجودة بين الخلق .
[ ص: 203 ]
ويروى أن
سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا ، سهلا وجبلا ، وقتل وأسر وبه سمي
سبأ ودان له الخلق ، فلما قال ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ، ثم خرج عليهم فقال : إني لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم ; فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت ، فسجدوا لها ، فكان ذلك أول عبادة الشمس ، فهذه عاقبة
nindex.php?page=treesubj&link=18669_24622الخيلاء والتكبر والمرح
المسألة الرابعة : قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=38كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } : قرئ {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=38سيئه } برفع الهمزة وبالهاء ، وبنصب الهمزة والتاء ، فمن قرأه برفع الهمزة والهاء أراد أن الكلام المتقدم فيه حسن مأمور به ، وفيه سيئ منهي عنه ، فرجع الوصف بالسوء إلى السيء منه . ومن قرأه بالهمزة المنصوبة والتاء رجع إلى ما نهي عنه منها ; لأنه أكثر من المأمور به . واختار
الطبري الأول .
فإن قيل : فكيف يكون الشيء مكروها ، والكراهية عندكم إرادة عدم الشيء ، فكيف يوجد ما أراد الله عدمه ؟ .
قلنا : قد أجبنا عن ذلك في كتاب شرح المشكلين ، ببسط . بيانه على الإيجاز ; أن معنى مكروها منهي عنه في أحد الوجهين ، ومرادا مأمور به ، وعلى هذا جاء قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ; أي يأمر باليسر ، ولا يأمر بالعسر ، ويكون معناه أيضا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها شرعا ، أي لا يريد أن يكون من الشرع ، وإن أراد وجوده ، كقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=7ولا يرضى لعباده الكفر } ; معناه دينا لا وجودا ; لأنه وجد بإرادته ومشيئته ، تعالى أن يكون من عبده في ملكه ما لا يريده .
المسألة الخامسة : قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=39ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } : قد قدمنا بيان الحكمة هاهنا ، وفي كتبنا ، وفسرنا وجوهها ومواردها : ولبابها هاهنا أنها العمل بمقتضى العلم . وأعظمها قدرا وأشرفها مأمورا ما بدأ به من قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ولا تجعل مع الله إلها آخر .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ :
قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=37وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } .
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ :
[ ص: 202 ]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=37مَرَحًا } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مُتَكَبِّرًا . الثَّانِي : بَطِرًا . الثَّالِثُ : شَدِيدُ الْفَرَحِ . الرَّابِعُ : النَّشَاطُ . فَإِذَا تَتَبَّعْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَجَدْتهَا مُتَقَارِبَةً ، وَلَكِنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ قِسْمَيْنِ مُخْتَلِفِينَ : أَحَدُهُمَا مَذْمُومٌ ، وَالْآخَرُ مَحْمُودٌ ; فَالتَّكَبُّرُ وَالْبَطَرُ مَذْمُومَانِ ، وَالْفَرَحُ وَالنَّشَاطُ مَحْمُودَانِ ; وَلِذَلِكَ يُوصَفُ اللَّهُ بِالْفَرَحِ ، فَفِي الْحَدِيثِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=32996لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ رَجُلٍ } الْحَدِيثَ " وَالْكَسَلُ مَذْمُومٌ شَرْعًا ، وَالنَّشَاطُ ضِدُّهُ . وَقَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ مَحْمُودًا ، وَذَلِكَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَعَلَى الظَّلَمَةِ .
وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْآنَ أَنَّ الْفَرَحَ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا وَصِفَاتٍ لَيْسَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ ، أَوْ كَانَ النَّشَاطُ إلَى مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا نِيَّةٌ دِينِيَّةٌ لِلْمُتَّصِفِ بِهِمَا ; فَذَلِكَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ هَاهُنَا . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي :
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=37إنَّك لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ } : يَعْنِي لَنْ تَتَوَلَّجَ بَاطِنَهَا ، فَتَعْلَمَ مَا فِيهَا ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يُرِيدُ لَنْ تُسَاوِيَ الْجِبَالَ بِطَوْلِك ، وَلَا بِطُولِك ، وَإِنَّمَا تَسْتَقْبِلُ مَا أَمَامَك ; وَأَيُّ فَضْلٍ لَك فِي ذَلِكَ ؟ وَالْمُسَاوَاةُ فِيهِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ .
[ ص: 203 ]
وَيُرْوَى أَنَّ
سَبَأً دَوَّخَ الْأَرْضَ بِأَجْنَادِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا ، سَهْلًا وَجَبَلًا ، وَقَتَلَ وَأَسَرَ وَبِهِ سُمِّيَ
سَبَأٌ وَدَانَ لَهُ الْخَلْقُ ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ انْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : إنِّي لَمَّا نِلْت مَا لَمْ يَنَلْ أَحَدٌ رَأَيْت الِابْتِدَاءَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ ; فَلَمْ أَرَ أَوْقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ إذَا أَشْرَقَتْ ، فَسَجَدُوا لَهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ عِبَادَةِ الشَّمْسِ ، فَهَذِهِ عَاقِبَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=18669_24622الْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمَرَحِ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=38كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا } : قُرِئَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=38سَيِّئُهُ } بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَبِالْهَاءِ ، وَبِنَصَبِ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءِ ، فَمَنْ قَرَأَهُ بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ أَرَادَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ فِيهِ حُسْنٌ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَفِيهِ سَيِّئٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَرَجَعَ الْوَصْفُ بِالسُّوءِ إلَى السِّيءِ مِنْهُ . وَمَنْ قَرَأَهُ بِالْهَمْزَةِ الْمَنْصُوبَةِ وَالتَّاءِ رَجَعَ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ . وَاخْتَارَ
الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ مَكْرُوهًا ، وَالْكَرَاهِيَةُ عِنْدَكُمْ إرَادَةُ عَدَمِ الشَّيْءِ ، فَكَيْفَ يُوجَدُ مَا أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَهُ ؟ .
قُلْنَا : قَدْ أَجَبْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ ، بِبَسْطٍ . بَيَانُهُ عَلَى الْإِيجَازِ ; أَنَّ مَعْنَى مَكْرُوهًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَمُرَادًا مَأْمُورٌ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } ; أَيْ يَأْمُرُ بِالْيُسْرِ ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْعُسْرِ ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَيْضًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا شَرْعًا ، أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَهُ ، كَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=7وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } ; مَعْنَاهُ دِينًا لَا وُجُودًا ; لِأَنَّهُ وُجِدَ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ عَبْدِهِ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=39ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْك رَبُّك مِنْ الْحِكْمَةِ } : قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ الْحِكْمَةِ هَاهُنَا ، وَفِي كُتُبِنَا ، وَفَسَّرْنَا وُجُوهَهَا وَمَوَارِدَهَا : وَلُبَابُهَا هَاهُنَا أَنَّهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ . وَأَعْظَمُهَا قَدْرًا وَأَشْرَفُهَا مَأْمُورًا مَا بَدَأَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ .