[ ص: 281 ] جماع أبواب بعض
nindex.php?page=treesubj&link=30688_30677فضائل المدينة الشريفة
الباب الأول في بدء شأنها
عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"مكة بلد عظمه الله ، وعظم حرمته ، خلق مكة وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألف عام ، ووصلها بالمدينة ، ووصل المدينة ببيت المقدس ، ثم خلق الأرض كلها بعد ألف عام خلقا واحدا" .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي رضي الله عنه : قال : "كانت الأرض ماء فبعث الله ريحا فمسحت الأرض مسحا فظهرت على الأرض زبدة فقسمها أربع قطع ، خلق من قطعة
مكة والثانية
المدينة والثالثة
بيت المقدس والرابعة
الكوفة" .
رواهما الحافظ
أبو بكر بن أحمد بن محمد الواسطي الخطيب في كتابه "فضائل
بيت المقدس" بسند لا بأس به خلافا لقول السيد إنهما واهيان ، فإني لم أجد في سندهما من تكلم فيه سوى
nindex.php?page=showalam&ids=16457ابن لهيعة وهو صدوق اختلط بأخرة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي يحسن له .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني عن
ذي مخبر ، وهو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة ، وقيل بدلها ميم ، وهو ابن أخي
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=935031إن الله عز وجل اطلع إلى أهل المدينة وهي بطحاء قبل أن تعمر ، ليس فيها مدرة ولا وبرة ، فقال :
"يا أهل يثرب إني مشترط عليكم ثلاثا ، وسائق إليكم من كل الثمرات : لا تعصي ولا تعلي ولا تكبري ، فإن فعلت شيئا من ذلك تركتك كالجزور لا يمنع من أكله" .
وقيل : أول من عمر بها الدور والآطام ، وزرع وغرس ، العماليق بنو عملاق بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وأخذوا ما بين
البحرين وعمان والحجاز إلى
الشام ومصر ، ومنهم الجبابرة والفراعنة .
وقال
أبو المنذر الشرقي بن القطامي : سمعت حديث تأسيس
المدينة من
سليمان بن عبد الله بن حنظلة الغسيل ، وسمعت أيضا بعض ذلك من رجل من قريش عن
أبي عبيدة بن عبد الله بن عمار بن ياسر ، فجمعت حديثهما لكثرة اتفاقه وقلة اختلافه ، قالا : "بلغنا أنه لما حج
موسى صلوات الله عليه حج معه أناس من بني إسرائيل ، فلما كان في انصرافهم أتوا على
[ ص: 282 ] المدينة ، فرأوا موضعها صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيين ، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به ، فنزلوا في موضع سوق بني قينقاع ، ثم تألفت إليهم أناس من العرب فرجعوا إلى دينهم ، فكانوا أول من سكن موضع
المدينة . ويذكر أن قوما من العمالقة سكنوه قبلهم .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم nindex.php?page=showalam&ids=13359وابن عساكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه قال : "بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور
بختنصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا ، وكانوا يجدون
محمدا صلى الله عليه وسلم منعوتا في كتابهم ، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل ، ولما خرجوا من أرض
الشام كانوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين
الشام واليمن يجدون نعتها نعت يثرب ، فينزل بها طائفة منهم يرجون أن يلقوا
محمدا فيتبعونه حتى نزل طائفة من بني
هارون ممن حمل التوراة إلى يثرب ، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون
بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحثون أبناءهم على اتباعه ، فأدركه من أدركه من أبنائهم ، فكفروا به وهم يعرفونه؛ لحسدهم الأنصار حيث سبقوهم إليه .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14413الزبير بن بكار عن
عثمان بن عبد الرحمن التيمي وغيره من أهل
المدينة قالوا :
"كان
بالمدينة في سالف الزمان قوم يقال لهم : صعل وفالج ، فغزاهم
داود النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ منهم مائة ألف عذراء ، قالوا : وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا . ولم تزل اليهود ظاهرين على
المدينة حتى كان سيل العرم . قال المفسرون : كانت
أرض سبأ المعنية بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15بلدة طيبة ورب غفور [سبأ 15] أخصب بلاد الله ، لم تكن سبخة وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب . ولا حية ، ويمر الغريب بواديهم وفي ثيابه القمل فيموت ، وتخرج المرأة وعلى رأسها مكتلها فتعمل بمغزلها وتسير بين ذلك الشجر فيمتلئ مما يتساقط من الثمر ، وكان طول بلدهم أكثر من شهرين للراكب المجد وكذلك عرضها ، وأهلها في غاية الكثرة مع اجتماع الكلمة والقوة . وكانوا كما قص الله تعالى من خبرهم بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=18وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة [سبأ 18] أي يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فكانوا آمنين في بلادهم ، تخرج المرأة لا تتزود شيئا تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي
الشام . فبطروا النعمة
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا [سبأ : 19] ، أي بمفاوز بينهم وبين الشام يركبون فيها الرواحل ، فعجل الله لهم الإجابة كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق [سبأ 19] .
"وكانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت
بلقيس بواديهم فسد بالعرم ، وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار ، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض ، وبنت من
[ ص: 283 ]
دونه بركة ضخمة ، وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء ، وإذا استغنوا سدوها ، فإذا جاء ماء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد ، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة ، فكانوا يستقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث فلا ينفد الماء حتى يرجع الماء من السنة المقبلة ، فكان السيل يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يستقر في واديهم فيجتمع الماء من تلك السيول والجبال في ذلك الوادي . وكان السد فرسخا في فرسخ ، بناه
لقمان الأكبر العادي ، وقيل
سبأ بن يشجب ، ومات قبل إكماله فأكمله ملوك
حمير .
"وكان أولاد
حمير بن سبأ وأولاد
كهلان بن سبأ سادة
اليمن في ذلك الزمان ، وكان كبيرهم
عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء ، وكانت زوجة
عمرو يقال لها طريفة ، من
حمير وكانت كاهنة ، فولدت له ثلاثة عشر ولدا :
ثعلبة أبو الأوس والخزرج ،
وحارثة والد خزاعة ،
وجفنة والدغسان- وقيل فيهم غير ذلك- وولدت له
وداعة وأبا حارثة والحارث وعوفا وكعبا ومالكا وعمرانا . هؤلاء أعقبوا كلهم ، والثلاثة الباقون لم يعقبوا . وكان
لعمرو مزيقياء من القصور والأموال ما لم يكن لأحد ، فرأى أخوه
عمران - وكان كاهنا - أن قومه سيمزقون وتخرب بلادهم ، فذكره
لعمرو . ثم أن طريفة الكاهنة سجعت له بما يدل على ذلك فقال : وما علامته؟ قالت :
إذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر ، ويقلب منه بيديه الصخر [فاعلم أن قد وقع الأمر] .
"فلما غضب الله تعالى عليهم وأذن في هلاكهم ، دخل
عمرو بن عامر فرأى جرذا تنقل أولادها من بطن الوادي إلى أعلى الجبل فقال : ما نقلت هذه أولادها من ههنا إلا وقد حضر أهل هذه البلاد عذاب ، فخرقت ذلك العرم فنقبت نقبا ، فسال الماء من ذلك النقب إلى جنبه ، فأمر بذلك النقب فسد ، فأصبح وقد انفجر بأعظم مما كان ، فأمر به أيضا فسد ، ثم انفجر بأعظم مما كان ، فلم يترك فرجة بين حجرين إلا أمر بربط هرة عندها ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وكان الجرذ يقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلا . فلما رأى ذلك دعا ابن أخيه فقال : إذا جلست العشية في نادي قومي فائتني فقل : علام تجلس على مالي؟ فإني سأقول لك : ليس لك عندي مال ولا ترك أبوك شيئا وإنك كاذب . فإن كذبتك فكذبني واردد علي مثل ما قلت لك ، فإذا فعلت ذلك فإني سأشتمك إذا أنت شتمتني ، وإن أنا لطمتك فالطمني . قال : ما كنت لأستقبلك بذلك يا عم . قال : بلى فافعل فإني أريد بذلك صلاحك وصلاح أهل بيتك . فقال الفتى : نعم ، حيث عرف رأي
عمرو . فجاء ، فقال ما أمره به حتى لطمه ، فتناول الفتى عمه فلطمه . فقال الشيخ : "يا معشر بني فلان أألطم فيكم؟ لا سكنت في بلد لطمني فيه فلان أبدا ، من يبتاع مني؟" فلما عرف القوم منه الجد أعطوه ، فنظر إلى أفضلهم عطية فأوجب له البيع .
[ ص: 284 ]
فدعا بالمال ، فنقده ، . وتحمل هو وبنوه من ليلته ، وفي رواية : إن الثمن لما صار في يده قال :
أي قوم ، إن العذاب قد أظلكم ، وزوال أمركم قد دنا ، فمن أراد منكم منزلا جديدا وجملا شديدا وسفرا بعيدا فليلحق بعمان ، ومن أراد منكم الخمر والخمير والديباج والحرير ، والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير ، ومن أراد منكم الراسخات في الوحل المطعمات في المحل ، المقيمات في الضحل فليلحق بيثرب ذات النخل ، فخرج أهل
عمان إلى
عمان ، وخرجت غسان إلى بصرى ، وخرجت الأوس والخزرج وبنو كعب بن عمرو إلى
يثرب ، فلما كانوا ببطن مر قال بنو كعب : هذا مكان صالح لا نبغي به بدلا ، فلذلك سموا خزاعة؛ لأنهم انخزعوا عن أصحابهم ، وأقبلت الأوس والخزرج حتى نزلوا
بيثرب" .
"ولما أراد الله ما أراد من تفريق من بقي وخراب بلادهم ، أقبلت فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة ، فدخلت الفأرة في الفرجة التي كانت عندها ، فتغلغلت بالسد ، فحفرت فيه حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل وجد خلاء فدخل فيه حتى قلع السد وفاض من الماء على الأموال فاحتملها ، فلم يبق منها إلا ما ذكر الله تعالى" .
"ولما قدمت الأوس والخزرج
المدينة تفرقوا في عاليتها وسافلتها ، ومنهم من نزل مع بني إسرائيل في قراهم ، ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين تألفوا إلى بني إسرائيل ، وكانت الثروة في بني إسرائيل ، ولهم قرى عمروا بها الآطام . فمكثت الأوس والخزرج ما شاء الله ، ثم سألوا اليهود في أن يعقدوا بينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض ، ويمتنعون به ممن سواهم ، فتحالفوا وتعاقدوا واشتركوا وتعاملوا ، فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا ، وأمرت الأوس والخزرج ، وصار لهم مال وعدد ، فخافت قريظة والنضير أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم ، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم ، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن يجليهم يهود ، حتى نجم منهم
مالك بن العجلان ، أخو بني
سالم بن عوف بن الخزرج ، وسوده الحيان : الأوس والخزرج" .
"وكان ملك اليهود الفطيون شرط ألا تهدى عروس إلى زوجها حتى تدخل عليه ، فلما سكن الأوس والخزرج المدينة ، أراد أن يسير فيهم بتلك السيرة . فتزوجت أخت
مالك بن العجلان رجلا من بني سالم ، فأرسل الفطيون رسولا في ذلك ، وكان مالك غائبا ، فخرجت أخته في طلبه ، فمرت به في قوم ، فنادته ، فقال : لقد جئت بسبة ، تناديني ولا تستحي؟ فقالت :
إن الذي يراد بي أكبر ، فأخبرته . فقال لها : أكفيك ذلك . فقالت : وكيف؟ فقال : أتزيى بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف ، فأقتله . ففعل . ثم خرج حتى قدم
الشام على
أبي جبيلة . [ ص: 285 ]
وكان نزلها حين نزلوا هم
بالمدينة ، فجيش جيشا عظيما وأقبل كأنه يريد
اليمن ، واختفى معهم
مالك بن العجلان ، فجاء فنزل بذي حرض ، وأرسل إلى
أهل المدينة من الأوس والخزرج فأتوا إليه ، فوصلهم ثم أرسل إلى بني إسرائيل وقال : من أراد الحباء من الملك فليخرج إليه ، مخافة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم ، فخرج إليه أشرافهم ، فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا فقتلهم ، فصار الأوس والخزرج أعز
أهل المدينة" .
تنبيه : في بيان غريب ما سبق
"حفها" : أحدق بها .
"الزبدة" : بفتحتين : الرغوة .
"البطحاء" : الأرض المتسعة .
"مدرة" : جمعها مدر ، مثل قصبة وقصب ، قال
الأزهري : المدر قطع الطين .
"المكتل" : بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة الفوقية : الزنبيل .
"صعل" : بصاد فعين مهملتين فلام .
"فالج" : بالجيم .
"المسناة" : حائط يبنى في وجه الماء ويسمى السد .
"العرم" : جمع عرمة .
"السكر" : بفتح السين المهملة وسكون الكاف : أي السد الذي يحبس الماء ، قال ابن الأعرابي : السيل الذي لا يطاق ، وقيل العرم : الوادي ، وأصله من العرامة : وهي الشدة والقوة .
"الضحل" : بالضاد المعجمة والحاء المهملة الساكنة : القليل من الماء ، وقيل : الماء القريب :
"الفطيون" : [بكسر الفاء وإسكان الطاء المهملة ثم مثناة تحتية مفتوحة وواو ساكنة فنون .
والفطيون هو الذي تملك بيثرب] .
[ ص: 286 ]
[ ص: 281 ] جِمَاعُ أَبْوَابِ بَعْضِ
nindex.php?page=treesubj&link=30688_30677فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي بَدْءِ شَأْنِهَا
عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
"مَكَّةُ بَلَدٌ عَظَّمَهُ اللَّهُ ، وَعَظَّمَ حُرْمَتَهُ ، خَلَقَ مَكَّةَ وَحَفَّهَا بِالْمَلَائِكَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفِ عَامٍ ، وَوَصَلَهَا بِالْمَدِينَةِ ، وَوَصَلَ الْمَدِينَةَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ خَلَقَ الْأَرْضَ كُلَّهَا بَعْدَ أَلْفِ عَامٍ خَلْقًا وَاحِدًا" .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ : "كَانَتِ الْأَرْضُ مَاءً فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَمَسَحَتِ الْأَرْضَ مَسْحًا فَظَهَرَتْ عَلَى الْأَرْضِ زُبْدَةٌ فَقَسَّمَهَا أَرْبَعَ قِطَعٍ ، خَلَقَ مِنْ قِطْعَةٍ
مَكَّةَ وَالثَّانِيَةِ
الْمَدِينَةَ وَالثَّالِثَةِ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَالرَّابِعَةِ
الْكُوفَةَ" .
رَوَاهُمَا الْحَافِظُ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِهِ "فَضَائِلُ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ" بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ خِلَافًا لِقَوْلِ السَّيِّدِ إِنَّهُمَا وَاهِيَانِ ، فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ فِي سَنَدِهِمَا مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ سِوَى
nindex.php?page=showalam&ids=16457ابْنِ لَهِيعَةَ وَهُوَ صَدُوقٌ اخْتَلَطَ بِأَخَرَةٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيُّ يُحَسِّنُ لَهُ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطَّبَرَانِيُّ عَنْ
ذِي مِخْبَرٍ ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَقِيلَ بَدَلُهَا مِيمٌ ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=935031إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ بَطْحَاءُ قَبْلَ أَنْ تُعَمَّرَ ، لَيْسَ فِيهَا مَدَرَةٌ وَلَا وَبَرَةٌ ، فَقَالَ :
"يَا أَهْلَ يَثْرِبَ إِنِّي مُشْتَرِطٌ عَلَيْكُمْ ثَلَاثًا ، وَسَائِقٌ إِلَيْكُمْ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ : لَا تَعْصِي وَلَا تُعْلِي وَلَا تَكْبُرِي ، فَإِنْ فَعَلْتِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَرَكْتُكِ كَالْجَزُورِ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَكْلِهِ" .
وَقِيلَ : أَوَّلُ مَنْ عَمَرَ بِهَا الدُّورَ وَالْآطَامَ ، وَزَرَعَ وَغَرَسَ ، الْعَمَالِيقُ بَنُو عِمْلَاقِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ ، وَأَخَذُوا مَا بَيْنَ
الْبَحْرِينِ وَعُمَانَ وَالْحِجَازِ إِلَى
الشَّامِ وَمِصْرَ ، وَمِنْهُمُ الْجَبَابِرَةُ وَالْفَرَاعِنَةُ .
وَقَالَ
أَبُو الْمُنْذِرِ الشَّرْقِيُّ بْنُ الْقُطَامِيِّ : سَمِعْتُ حَدِيثَ تَأْسِيسِ
الْمَدِينَةِ مِنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ ، وَسَمِعْتُ أَيْضًا بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، فَجَمَعْتُ حَدِيثَهُمَا لِكَثْرَةِ اتِّفَاقِهِ وَقِلَّةِ اخْتِلَافِهِ ، قَالَا : "بَلَغَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ
مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَجَّ مَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي انْصِرَافِهِمْ أَتَوْا عَلَى
[ ص: 282 ] الْمَدِينَةِ ، فَرَأَوْا مَوْضِعَهَا صِفَةَ بَلَدِ نَبِيٍّ يَجِدُونَ وَصْفَهُ فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ، فَاشْتَوَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّفُوا بِهِ ، فَنَزَلُوا فِي مَوْضِعِ سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، ثُمَّ تَأَلَّفَتْ إِلَيْهِمْ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ فَرَجَعُوا إِلَى دِينِهِمْ ، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ سَكَنَ مَوْضِعَ
الْمَدِينَةِ . وَيُذْكَرُ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَمَالِقَةِ سَكَنُوهُ قَبْلَهُمْ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12181أَبُو نُعَيْمٍ nindex.php?page=showalam&ids=13359وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : "بَلَغَنِي أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ ظُهُورِ
بُخْتُنَصَّرَ عَلَيْهِمْ وَفُرْقَتِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ تَفَرَّقُوا ، وَكَانُوا يَجِدُونَ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْعُوتًا فِي كِتَابِهِمْ ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْقُرَى الْعَرَبِيَّةِ فِي قَرْيَةٍ ذَاتِ نَخْلٍ ، وَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ أَرْضِ
الشَّامِ كَانُوا يَعْبُرُونَ كُلَّ قَرْيَةٍ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى الْعَرَبِيَّةِ بَيْنَ
الشَّامِ وَالْيَمَنِ يَجِدُونَ نَعْتَهَا نَعْتَ يَثْرِبَ ، فَيَنْزِلُ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَلْقَوْا
مُحَمَّدًا فَيَتَّبِعُونَهُ حَتَّى نَزَلَ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي
هَارُونَ مِمَّنْ حَمَلَ التَّوْرَاةَ إِلَى يَثْرِبَ ، فَمَاتَ أُولَئِكَ الْآبَاءُ وَهُمْ يُؤْمِنُونَ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَحُثُّونَ أَبْنَاءَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ ، فَأَدْرَكَهُ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ أَبْنَائِهِمْ ، فَكَفَرُوا بِهِ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ؛ لِحَسَدِهِمُ الْأَنْصَارَ حَيْثُ سَبَقُوهُمْ إِلَيْهِ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=14413الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ قَالُوا :
"كَانَ
بِالْمَدِينَةِ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمْ : صَعْلٌ وَفَالِجٌ ، فَغَزَاهُمْ
دَاوُدُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَخَذَ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفِ عَذْرَاءَ ، قَالُوا : وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدُّودَ فِي أَعْنَاقِهِمْ فَهَلَكُوا . وَلَمْ تَزَلِ الْيَهُودُ ظَاهِرِينَ عَلَى
الْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَ سَيْلُ الْعَرِمِ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : كَانَتْ
أَرْضُ سَبَأٍ الْمَعْنِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سَبَأٍ 15] أَخْصَبَ بِلَادِ اللَّهِ ، لَمْ تَكُنْ سَبَخَةً وَقِيلَ : لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَعُوضٌ وَلَا ذُبَابٌ وَلَا بُرْغُوثٌ وَلَا عَقْرَبٌ . وَلَا حَيَّةٌ ، وَيَمُرُّ الْغَرِيبُ بِوَادِيهِمْ وَفِي ثِيَابِهِ الْقَمْلُ فَيَمُوتُ ، وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلُهَا فَتَعْمَلُ بِمِغْزَلِهَا وَتَسِيرُ بَيْنَ ذَلِكَ الشَّجَرِ فَيَمْتَلِئُ مِمَّا يَتَسَاقَطُ مِنَ الثَّمَرِ ، وَكَانَ طُولُ بَلَدِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ لِلرَّاكِبِ الْمُجِدِّ وَكَذَلِكَ عَرْضُهَا ، وَأَهْلُهَا فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ مَعَ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَالْقُوَّةِ . وَكَانُوا كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَبَرِهِمْ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=18وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سَبَأٍ 18] أَيْ يُرَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ لِتَقَارُبِهَا ، فَكَانُوا آمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ ، تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لَا تَتَزَوَّدُ شَيْئًا تَبِيتُ فِي قَرْيَةٍ وَتَقِيلُ فِي أُخْرَى حَتَّى تَأْتِيَ
الشَّامَ . فَبَطِرُوا النِّعْمَةَ
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سَبَأٍ : 19] ، أَيْ بِمَفَاوِزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ يَرْكَبُونَ فِيهَا الرَّوَاحِلَ ، فَعَجَّلَ اللَّهُ لَهُمُ الْإِجَابَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=19فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سَبَأٍ 19] .
"وَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى مَاءِ وَادِيهِمْ ، فَأَمَرَتْ
بِلْقِيسُ بِوَادِيهِمْ فَسُدَّ بِالْعَرِمِ ، وَهُوَ الْمُسَنَّاةُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ ، فَسَدَّتْ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ بِالصَّخْرِ وَالْقَارِ ، وَجَعَلَتْ لَهُ أَبْوَابًا ثَلَاثَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، وَبَنَتْ مِنْ
[ ص: 283 ]
دُونِهِ بِرْكَةً ضَخْمَةً ، وَجَعَلَتْ فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ مَخْرَجًا عَلَى عِدَّةِ أَنْهَارٍ يَفْتَحُونَهَا إِذَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ ، وَإِذَا اسْتَغْنَوْا سَدُّوهَا ، فَإِذَا جَاءَ مَاءُ الْمَطَرِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَاءُ أَوْدِيَةِ الْيَمَنِ فَاحْتَبَسَ السَّيْلُ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ ، فَأَمَرَتْ بِالْبَابِ الْأَعْلَى فَفُتِحَ فَجَرَى مَاؤُهُ فِي الْبِرْكَةِ ، فَكَانُوا يَسْتَقُونَ مِنَ الْبَابِ الْأَعْلَى ثُمَّ مِنَ الثَّانِي ثُمَّ مِنَ الثَّالِثِ فَلَا يَنْفَدُ الْمَاءُ حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ ، فَكَانَ السَّيْلُ يَأْتِيهِمْ مِنْ مَسِيرَةِ عَشْرَةِ أَيَّامٍ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي وَادِيهِمْ فَيَجْتَمِعُ الْمَاءُ مِنْ تِلْكَ السُّيُولِ وَالْجِبَالِ فِي ذَلِكَ الْوَادِي . وَكَانَ السَّدُّ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ ، بَنَاهُ
لُقْمَانُ الْأَكْبَرُ الْعَادِيُّ ، وَقِيلَ
سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ ، وَمَاتَ قَبْلَ إِكْمَالِهِ فَأَكْمَلَهُ مُلُوكُ
حِمْيَرَ .
"وَكَانَ أَوْلَادُ
حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ وَأَوْلَادُ
كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ سَادَةَ
الْيَمَنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ، وَكَانَ كَبِيرَهُمْ
عَمْرُو مُزَيْقِيَاءُ بْنُ عَامِرٍ مَاءِ السَّمَاءِ ، وَكَانَتْ زَوْجَةُ
عَمْرٍو يُقَالُ لَهَا طَرِيفَةُ ، مِنْ
حِمْيَرَ وَكَانَتْ كَاهِنَةً ، فَوَلَدَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَلَدًا :
ثَعْلَبَةُ أَبُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ،
وَحَارِثَةُ وَالِدُ خُزَاعَةَ ،
وَجَفْنَةُ وَالدَّغَسَّانُ- وَقِيلَ فِيهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ- وَوَلَدَتْ لَهُ
وَدَاعَةَ وَأَبَا حَارِثَةَ وَالْحَارِثَ وَعَوْفًا وَكَعْبًا وَمَالِكًا وَعِمْرَانًا . هَؤُلَاءِ أَعْقَبُوا كُلُّهُمْ ، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقُونَ لَمْ يُعْقِبُوا . وَكَانَ
لِعَمْرٍو مُزَيْقِيَاءَ مِنَ الْقُصُورِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ ، فَرَأَى أَخُوهُ
عِمْرَانُ - وَكَانَ كَاهِنًا - أَنَّ قَوْمَهُ سَيُمَزَّقُونَ وَتَخْرَبُ بِلَادُهُمْ ، فَذَكَرَهُ
لِعَمْرٍو . ثُمَّ أَنَّ طَرِيفَةَ الْكَاهِنَةَ سَجَعَتْ لَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : وَمَا عَلَامَتُهُ؟ قَالَتْ :
إِذَا رَأَيْتَ جُرَذًا يُكْثِرُ فِي السَّدِّ الْحَفْرَ ، وَيَقْلِبُ مِنْهُ بِيَدَيْهِ الصَّخْرَ [فَاعْلَمْ أَنْ قَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ] .
"فَلَمَّا غَضِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَأَذِنَ فِي هَلَاكِهِمْ ، دَخَلَ
عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ فَرَأَى جُرَذًا تَنْقُلُ أَوْلَادَهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي إِلَى أَعْلَى الْجَبَلِ فَقَالَ : مَا نَقَلَتْ هَذِهِ أَوْلَادَهَا مِنْ هَهُنَا إِلَّا وَقَدْ حَضَرَ أَهْلَ هَذِهِ الْبِلَادِ عَذَابٌ ، فَخَرَقَتْ ذَلِكَ الْعَرِمَ فَنَقَبَتْ نَقْبًا ، فَسَالَ الْمَاءُ مِنْ ذَلِكَ النَّقْبِ إِلَى جَنْبِهِ ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ النَّقْبَ فَسُدَّ ، فَأَصْبَحَ وَقَدِ انْفَجَرَ بِأَعْظَمَ مِمَّا كَانَ ، فَأَمَرَ بِهِ أَيْضًا فَسُدَّ ، ثُمَّ انْفَجَرَ بِأَعْظَمَ مِمَّا كَانَ ، فَلَمْ يَتْرُكْ فُرْجَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ إِلَّا أَمَرَ بِرَبْطِ هِرَّةٍ عِنْدَهَا ، فَمَا زَادَ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً ، وَكَانَ الْجُرَذُ يَقْلِبُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ الصَّخْرَةَ مَا يَقْلِبُهَا خَمْسُونَ رَجُلًا . فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ دَعَا ابْنَ أَخِيهِ فَقَالَ : إِذَا جَلَسْتُ الْعَشِيَّةَ فِي نَادِي قَوْمِي فَائْتِنِي فَقُلْ : عَلَامَ تَجْلِسُ عَلَى مَالِي؟ فَإِنِّي سَأَقُولُ لَكَ : لَيْسَ لَكَ عِنْدِي مَالٌ وَلَا تَرَكَ أَبُوكَ شَيْئًا وَإِنَّكَ كَاذِبٌ . فَإِنْ كَذَّبْتُكَ فَكَذِّبْنِي وَارْدُدْ عَلَيَّ مِثْلَ مَا قُلْتُ لَكَ ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَإِنِّي سَأَشْتُمُكَ إِذَا أَنْتَ شَتَمْتَنِي ، وَإِنْ أَنَا لَطَمْتُكَ فَالْطُمْنِي . قَالَ : مَا كُنْتُ لِأَسْتَقْبِلَكَ بِذَلِكَ يَا عَمِّ . قَالَ : بَلَى فَافْعَلْ فَإِنِّي أُرِيدُ بِذَلِكَ صَلَاحَكَ وَصَلَاحَ أَهْلِ بَيْتِكَ . فَقَالَ الْفَتَى : نَعَمْ ، حَيْثُ عَرَفَ رَأْيَ
عَمْرٍو . فَجَاءَ ، فَقَالَ مَا أَمَرَهُ بِهِ حَتَّى لَطَمَهُ ، فَتَنَاوَلَ الْفَتَى عَمَّهُ فَلَطَمَهُ . فَقَالَ الشَّيْخُ : "يَا مَعْشَرَ بَنِي فُلَانٍ أَأُلْطَمُ فِيكُمْ؟ لَا سَكَنْتُ فِي بَلَدٍ لَطَمَنِي فِيهِ فُلَانٌ أَبَدًا ، مَنْ يَبْتَاعُ مِنِّي؟" فَلَمَّا عَرَفَ الْقَوْمُ مِنْهُ الْجِدَّ أَعْطَوْهُ ، فَنَظَرَ إِلَى أَفْضَلِهِمْ عَطِيَّةٍ فَأَوْجَبَ لَهُ الْبَيْعَ .
[ ص: 284 ]
فَدَعَا بِالْمَالِ ، فَنَقَدَهُ ، . وَتَحَمَّلَ هُوَ وَبَنُوهُ مِنْ لَيْلَتِهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : إِنَّ الثَّمَنَ لَمَّا صَارَ فِي يَدِهِ قَالَ :
أَيْ قَوْمِ ، إِنَّ الْعَذَابَ قَدْ أَظَلَّكُمْ ، وَزَوَالُ أَمْرِكُمْ قَدْ دَنَا ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ مَنْزِلًا جَدِيدًا وَجَمَلًا شَدِيدًا وَسَفَرًا بَعِيدًا فَلْيَلْحَقْ بِعُمَانَ ، وَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْخَمْرَ وَالْخَمِيرَ وَالدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ ، وَالْأَمْرَ وَالتَّأْمِيرَ فَلْيَلْحَقْ بِبُصْرَى وَسَدِيرٍ ، وَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الرَّاسِخَاتِ فِي الْوَحْلِ الْمُطْعِمَاتِ فِي الْمَحْلِ ، الْمُقِيمَاتِ فِي الضَّحْلِ فَلْيَلْحَقْ بِيَثْرِبَ ذَاتِ النَّخْلِ ، فَخَرَجَ أَهْلُ
عُمَانَ إِلَى
عُمَانَ ، وَخَرَجَتْ غَسَّانُ إِلَى بُصْرَى ، وَخَرَجَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَبَنُو كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو إِلَى
يَثْرِبَ ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَطْنِ مَرٍّ قَالَ بَنُو كَعْبٍ : هَذَا مَكَانٌ صَالِحٌ لَا نَبْغِي بِهِ بَدَلًا ، فَلِذَلِكَ سُمُّوا خُزَاعَةَ؛ لِأَنَّهُمُ انْخَزَعُوا عَنْ أَصْحَابِهِمْ ، وَأَقْبَلَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى نَزَلُوا
بِيَثْرِبَ" .
"وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مَا أَرَادَ مِنْ تَفْرِيقِ مَنْ بَقِيَ وَخَرَابِ بِلَادِهِمْ ، أَقْبَلَتْ فَأْرَةٌ حَمْرَاءُ إِلَى هِرَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْهِرَرِ فَسَاوَرَتْهَا حَتَّى اسْتَأْخَرَتْ عَنْهَا الْهِرَّةُ ، فَدَخَلَتِ الْفَأْرَةُ فِي الْفُرْجَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهَا ، فَتَغَلْغَلَتْ بِالسَّدِّ ، فَحَفَرَتْ فِيهِ حَتَّى وَهَّنَتْهُ لِلسَّيْلِ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ ، فَلَمَّا جَاءَ السَّيْلُ وَجَدَ خَلَاءً فَدَخَلَ فِيهِ حَتَّى قَلَعَ السَّدَّ وَفَاضَ مِنَ الْمَاءِ عَلَى الْأَمْوَالِ فَاحْتَمَلَهَا ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا مَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى" .
"وَلَمَّا قَدِمَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ
الْمَدِينَةَ تَفَرَّقُوا فِي عَالِيَتِهَا وَسَافِلَتِهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قُرَاهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ وَحْدَهُ لَا مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا مَعَ الْعَرَبِ الَّذِينَ تَأَلَّفُوا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَكَانَتِ الثَّرْوَةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَلَهُمْ قُرًى عَمَرُوا بِهَا الْآطَامَ . فَمَكَثَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ سَأَلُوا الْيَهُودَ فِي أَنْ يَعْقِدُوا بَيْنَهُمْ جِوَارًا وَحِلْفًا يَأْمَنُ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَيَمْتَنِعُونَ بِهِ مِمَّنْ سِوَاهُمْ ، فَتَحَالَفُوا وَتَعَاقَدُوا وَاشْتَرَكُوا وَتَعَامَلُوا ، فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا طَوِيلًا ، وَأَمِرَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَصَارَ لَهُمْ مَالٌ وَعَدَدٌ ، فَخَافَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ أَنْ يَغْلِبُوهُمْ عَلَى دَوْرِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَتَنَمَّرُوا لَهُمْ حَتَّى قَطَعُوا الْحِلْفَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ ، فَأَقَامَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فِي مَنَازِلِهِمْ خَائِفِينَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ يَهُودُ ، حَتَّى نَجَمَ مِنْهُمْ
مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ ، أَخُو بَنِي
سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَسَوَّدَهُ الْحَيَّانِ : الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ" .
"وَكَانَ مَلِكُ الْيَهُودِ الْفِطْيَوْنُ شَرَطَ أَلَّا تُهْدَى عَرُوسٌ إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَدْخُلَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا سَكَنَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ الْمَدِينَةَ ، أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ فِيهِمْ بِتِلْكَ السِّيرَةِ . فَتَزَوَّجَتْ أُخْتُ
مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَالِمٍ ، فَأَرْسَلَ الْفِطْيَوْنُ رَسُولًا فِي ذَلِكَ ، وَكَانَ مَالِكٌ غَائِبًا ، فَخَرَجَتْ أُخْتُهُ فِي طَلَبِهِ ، فَمَرَّتْ بِهِ فِي قَوْمٍ ، فَنَادَتْهُ ، فَقَالَ : لَقَدْ جِئْتِ بِسُبَّةٍ ، تُنَادِينِي وَلَا تَسْتَحِي؟ فَقَالَتْ :
إِنَّ الَّذِي يُرَادُ بِي أَكْبَرُ ، فَأَخْبَرَتْهُ . فَقَالَ لَهَا : أَكْفِيكِ ذَلِكَ . فَقَالَتْ : وَكَيْفَ؟ فَقَالَ : أَتَزَيَّى بِزِيِّ النِّسَاءِ وَأَدْخُلُ مَعَكِ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ ، فَأَقْتُلُهُ . فَفَعَلَ . ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ
الشَّامَ عَلَى
أَبِي جُبَيْلَةَ . [ ص: 285 ]
وَكَانَ نَزَلَهَا حِينَ نَزَلُوا هُمْ
بِالْمَدِينَةِ ، فَجَيَّشَ جَيْشًا عَظِيمًا وَأَقْبَلَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ
الْيَمَنَ ، وَاخْتَفَى مَعَهُمْ
مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ ، فَجَاءَ فَنَزَلَ بِذِي حُرُضٍ ، وَأَرْسَلَ إِلَى
أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَأَتَوْا إِلَيْهِ ، فَوَصَلَهُمْ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ : مَنْ أَرَادَ الْحِبَاءَ مِنَ الْمَلِكِ فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهِ ، مَخَافَةَ أَنْ يَتَحَصَّنُوا فِي الْحُصُونِ فَلَا يَقْدِرَ عَلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَشْرَافُهُمْ ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِطَعَامٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَقَتَلَهُمْ ، فَصَارَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَعَزَّ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ" .
تَنْبِيهٌ : فِي بَيَانِ غَرِيبِ مَا سَبَقَ
"حَفَّهَا" : أَحْدَقَ بِهَا .
"الزَّبَدَةُ" : بِفَتْحَتَيْنِ : الرَّغْوَةُ .
"الْبَطْحَاءُ" : الْأَرْضُ الْمُتَّسِعَةُ .
"مَدَرَةٌ" : جَمْعُهَا مَدَرٌ ، مِثْلُ قَصَبَةٍ وَقَصَبٍ ، قَالَ
الْأَزْهَرِيُّ : الْمَدَرُ قِطَعُ الطِّينِ .
"الْمِكْتَلُ" : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ : الزِّنْبِيلُ .
"صَعْلٌ" : بِصَادٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَتَيْنِ فَلَامٍ .
"فَالِجٌ" : بِالْجِيمِ .
"الْمُسَنَّاةُ" : حَائِطٌ يُبْنَى فِي وَجْهِ الْمَاءِ وَيُسَمَّى السَّدَّ .
"الْعَرِمُ" : جَمْعُ عَرِمَةٍ .
"السَّكْرُ" : بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ : أَيِ السَّدُّ الَّذِي يَحْبِسُ الْمَاءَ ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : السَّيْلُ الَّذِي لَا يُطَاقُ ، وَقِيلَ الْعَرِمُ : الْوَادِي ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعَرَامَةِ : وَهِيَ الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ .
"الضَّحْلُ" : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ : الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ ، وَقِيلَ : الْمَاءُ الْقَرِيبُ :
"الْفِطْيَوْنُ" : [بِكَسْرِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَنُونٍ .
وَالْفِطْيَوْنُ هُوَ الَّذِي تَمَلَّكَ بِيَثْرِبَ] .
[ ص: 286 ]