روى من طريق أبو نعيم أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم عن أبيه عن جده قال:
سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال: بينما أنا نائم في الحجر رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا فأتيت كاهنة قريش وعلي مطرف خز وجمتي تضرب منكبي فقلت لها إني رأيت الليلة كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نورا أزهر منها، أعظم من نور الشمس بسبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم لها ساجدين وهي تزداد كل ساعة- عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تظهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها أخذهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا فلم أقدر فقلت: لمن النصيب؟ قال: النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها. وسبقوك. فانتبهت مذعورا. فرأيت وجه الكاهنة قد تغير ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب ويدين له الناس. فقال عبد المطلب لأبي طالب: لعلك أن تكون عم هذا المولود.
فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج ويقول: كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين. فيقال له: ألا تؤمن به؟ فيقول السبة والعار .
وذكر ابن ظفر أن مرثد بن عبد كلال رأى رؤيا أخافته وأذعرته وهالته في حال منامه فلما انتبه نسيها حتى ما يذكر منها شيئا، ثم إنه أحضر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن ثم يقول: أخبرني عما أريد أن أسألك عنه. فيجيبه الكاهن بأنه لا علم عنده عنها. فلم يكن عند واحد منهم جوابها، ثم إنه خرج يتصيد بعد ذلك فأوغل في طلب الصيد وانفرد عن أصحابه، فرفعت له أبيات في ذرى جبل فقصد بيتا منها، فبرزت له عجوز فقالت له: بالرحب والسعة والجفنة المدعدعة والعلبة المترعة. فنزل فلما احتجب عن الشمس نام فلم يستيقظ حتى تصرم الهجير، فإذا بين يديه فتاة لم ير مثلها جمالا فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك الهمام هل لك في الطعام؟ فخاف على نفسه لما رأى أنها عرفته فقالت: لا حذر فداك البشر. وقربت إليه [ ص: 131 ] ثريدا وقامت تذب عنه حتى انتهى أكله، ثم سقته لبنا صريفا وضريبا، فشرب ما شاء وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة فملأت عينيه حسنا وقلبه هوى فسألها عن اسمها فقالت: عفيراء. فقال:
يا عفيراء من الذي دعوتيه بالملك الهمام؟ فقالت: مرثد العظيم الشأن حاشر الكواهن والكهان، لمعضلة بعل بها الجان. قال يا عفيراء أتعلمين ما تلك المعضلة؟ فقالت: نعم أيها الملك، إنها رؤيا منام ليس بأضغاث أحلام، رأيت أعاصير زوابع بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع روي جارع وغرق كارع، وسمعت فيما أنت سامع دعاء ذي جرس صادع هلموا إلى المشارع. قال الملك: نعم هذه رؤياي فما تأويلها؟ قالت:
الزوابع: ملوك تتابع. والنهر: علم واسع. والداعي: نبي شافع. والجارع: ولي له تابع. والكارع:
عدو له منازع فقال الملك: أسلم هذا النبي أم حرب؟ فقالت: أقسم برافع السماء ومن أنزل الماء من العماء إنه لمبطل الدماء ومنطق العقائل نطق الإماء. قال الملك: إلى ماذا يدعو؟
قالت: إلى صيام وصلاة وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام. قال الملك:
من قومه؟ قالت: مضر بن نزار ولهم نقع مثار يجلى عن قتل وإسار. قال: يا عفيراء إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت: أعضاده غطاريف يمانون طائرهم به ميمون يعزيهم فيعزون ويدمث بهم الحزون وإلى نصر يعتزون.
فأطرق الملك يؤامر نفسه في خطبتها فقالت أبيت اللعن إن تابعي غيور، ولأمري صيور وناكحي مقبور، والكلف بي تبور.
فنهض الملك مبادرا فجال في صهوة جواده وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء.
تفسير الغريب
أوغل في طلب كذا: تابع في ذلك. والوغول: الدخول في الشيء بالقوة.
الذرى: بوزن الحصى: كل ما يستتر به الشخص. والذروة بالكسر والضم من كل شيء أعلاه.
والجفنة المدعدعة : هي التي ملئت ثم حركت حتى تراص ما فيها ثم ملئت بعد ذلك والعلبة المترعة: هي إناء من جلد والإتراع: الامتلاء.
الأرواح: الرياح. الصريف: اللبن المحض يحلب أوان الحلاب يصرف عن الضرع إلى [ ص: 132 ] الشارب. الضريب من اللبن. الرائب يحلب عليه فيستضرب أي يغلظ.
بعل بها الجان: بفتح الباء وكسر العين المهملة بعدها لام، قال في النهاية: بعل بالأمر إذا دهش.
أعاصير زوابع: هي من الرياح ما يثير التراب فيعليه في الجو ويثيره. ساطع: مرتفع.
الجرس: الصوت. المشارع: المداخل إلى النهر.
روي جارع: أي من شرب منه جرعا روي. وغرق كارع: أي من أمعن غرق.
تتابع: جمع تبع، وهو لقب كان لملوك اليمن وهو من الاتباع، لأن بعضهم كان يتبع في الملك والسيرة بعضا. والتبع زعموا أنه اسم للظل.
العماء: الغيم والغمام. العقائل: الكرائم من النساء يسبيهن فيشددن النطق على أوساطهن للمهنة والخدمة. النقع: الغبار يثيره المتحاربون والخيل وغيرها.
الأعضاد: الأنصار الغطاريف : السادة والتغطرف: التكبر.
يدمث: يسهل، يعتزون: ينتسبون.
يؤامر نفسه: هكذا يقال ويراد به يعارض الرأيين المتضادين في النفس.
ولأمري صيور: أي عاقبة يصير إليها، يقولونه على جهة التعظم.
جال: وثب. الصهوة: مقعد الفارس من ظهر الفرس. كوماء : عظيمة السنام.
وروى ابن سعد وابن الجوزي عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنها قالت، قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: كان ذات ليلة نائما فقال: رأيت كأنه قد غشيت خالد بن سعيد بن العاص مكة ظلمة عظيمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينما هو كذلك إذ خرج نور من زمزم ثم علا في السماء فأضاء في البيت، ثم أضاءت مكة كلها ثم ضرب إلى نخل يثرب فأضاءها حتى إني لأنظر إلى البسر في النخل. فاستيقظت فقصصتها على أخي [ ص: 133 ] عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي فقال: يا أخي إن هذا لأمر يكون في بني عبد المطلب، ألا ترى أنه خرج من حفرة أبيهم.
قال فإنه لمما هداني الله للإسلام. قالت خالد: أم خالد: فأول من أسلم ابني وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله. خالد:
فقص عليه ما بعثه الله به فأسلم وأسلم خالد عمرو بعده.
وروى ابن سعد حرام بن عثمان الأنصاري - رضي الله تعالى عنه- قال: قدم من أسعد بن زرارة الشام تاجرا في أربعين رجلا من قومه، فرأى رؤيا أن آتيا أتاه فقال: إن نبيا يخرج بمكة يا أبا أمامة فاتبعه وآية ذلك أنكم تنزلون منزلا فيصاب أصحابك فتنجو أنت وفلان يطعن في عينه. فنزلوا منزلا فبيتهم فيه الطاعون فأصيبوا جميعا غير وصاحب له طعن في عينه. أبي أمامة
وروى أيضا عن وابن الجوزي، عمرو بن مرة الجهني رضي الله تعالى عنه قال:
خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا خرج من الكعبة حتى أضاء لي من الكعبة إلى جبل يثرب وأشعر جهينة فسمعت صوتا في النور وهو يقول: انقشعت الظلم وسطع الضياء وبعث خاتم الأنبياء. ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن فسمعت صوتا في النور وهو يقول: ظهر الإسلام وكسرت الأصنام ووصلت الأرحام.
فانتبهت فزعا فقلت لقومي: والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث. وأخبرتهم بما رأيت. فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا خبر أن رجلا يقال له أحمد قد بعث. فخرجت حتى أتيته فأخبرته بما رأيت فقال: يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام وآمرهم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله ورفض الأصنام وحج بيت الله وصيام [ ص: 134 ] شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا، فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار، فآمن بالله يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من هول جهنم. فقلت يا رسول الله، آمنت بما جئت به من حلال وحرام. ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به وهي:
شهدت بأن الله حق وأنني لآلهة الأصنام أول تارك لأصحب خير الناس نفسا ووالدا
رسول مليك الناس فوق الحبائك
قال بختنصر: صدقت، هذه الرؤيا التي رأيتها فما تأويلها؟ قال: أما الصنم. فأمم مختلفة في أول الزمان وفي وسطه وفي آخره. وأما الحجر الذي قذف الله به الصنم فدين الله تعالى يقذف به هذه الأمم في آخر الزمان ليظهره عليها، فيبعث الله تعالى نبيا أميا من العرب فيدوخ الله تعالى به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم، ويظهر على الأديان كما رأيت الحجر ظهر على وجه الأرض.
قال في الصحاح: داخ البلاد يدوخها قهرها واستولى على أهلها وكذلك دوخ البلاد. [ ص: 135 ]