بيان حقيقة المراقبة ودرجاتها .
اعلم أن هي ملاحظة الرقيب وانصراف الهم إليه فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره يقال أنه يراقب فلانا ويراعي جانبه ويعني بهذه المراقبة حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة وتثمر تلك الحالة أعمالا في الجوارح وفي القلب . حقيقة المراقبة
أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب واشتغاله به والتفاته إليه وملاحظته إياه وانصرافه إليه .
وأما المعرفة التي تثمر هذه الحالة فهو العلم بأن رقيب على أعمال العباد قائم على كل نفس بما كسبت وأن سر القلب في حقه مكشوف كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف بل أشد من ذلك . الله مطلع على الضمائر عالم بالسرائر
فهذه المعرفة إذا صارت يقينا أعني أنها خلت عن الشك ثم استولت بعد ذلك على القلب قهرته فرب علم لا شك فيه لا يغلب على القلب كالعلم بالموت فإذا استولت على القلب استجرت القلب إلى مراعاة جانب الرقيب وصرفت همه إليه والموقنون بهذه المعرفة هم المقربون وهم ينقسمون إلى الصديقين . وإلى أصحاب اليمين فمراقبتهم على درجتين .
الدرجة الأولى مراقبة المقربين من الصديقين وهي مراقبة التعظيم والإجلال وهو أن يصير القلب مستغرقا بملاحظة ذلك الجلال ومنكسرا تحت الهيبة فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير أصلا وهذه مراقبة لا نطول النظر في تفصيل أعمالها فإنها مقصورة على القلب .
أما الجوارح فإنها تتعطل عن التلفت إلى المباحات فضلا عن المحظورات وإذا تحركت بالطاعات كانت كالمستعملة بها فلا تحتاج إلى تدبير وتثبيت في حفظها على سنن السداد .
بل يسدد الرعية من ملك كلبة الراعي والقلب هو الراعي فإذا صار مستغرقا بالمعبود صارت الجوارح مستعملة جارية على السداد والاستقامة من غير تكلف وهذا هو الذي صار همه هما واحدا فكفاه الله سائر الهموم .
ومن نال هذه الدرجة فقد يغفل عن الخلق حتى لا يبصر من يحضر عنده وهو فاتح عينيه ولا يسمع ما يقال له مع أنه لا صمم به وقد يمر على ابنه مثلا فلا يكلمه حتى كان بعضهم يجري عليه ذلك فقال لمن عاتبه إذا مررت بي فحركني .
ولا تستبعد هذا فإنك تجد نظير هذا في القلوب المعظمة لملوك الأرض حتى إن خدم الملك قد لا يحسون بما يجري عليهم في مجالس الملوك لشدة استغراقهم بهم بل قد يشتغل القلب بمهم حقير من مهمات الدنيا فيغوص الرجل في الفكر فيه ويمشي فربما يجاوز الموضع الذي قصده وينسى الشغل الذي نهض له .
وقد قيل هل تعرف في زمانك هذا رجلا قد اشتغل بحاله عن الخلق فقال ما أعرف إلا رجلا سيدخل عليكم الساعة فما كان إلا سريعا حتى دخل عتبة الغلام فقال له لعبد الواحد بن زيد من أين جئت يا عبد الواحد بن زيد عتبة فقال من موضع كذا وكان طريقه على السوق فقال من لقيت في الطريق فقال ما رأيت أحدا .
ويروى عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه مر بامرأة فدفعها فسقطت على وجهها فقيل له لم فعلت هذا ؟ فقال ما ظننتها إلا جدارا .
وحكي عن بعضهم أنه قال مررت بجماعة يترامون وواحد جالس بعيدا منهم فتقدمت إليه فأردت أن أكلمه فقال فقلت وحدك فقال معي ربي وملكاي فقلت من سبق من هؤلاء فقال من غفر الله له فقلت أين الطريق فأشار نحو السماء وقام ومشى وقال أكثر خلقك شاغل عنك فهذا كلام مستغرق بمشاهدة الله تعالى لا يتكلم إلا منه ولا يسمع إلا فيه . ذكر الله تعالى أشهى
فهذا لا يحتاج إلى مراقبة لسانه وجوارحه فإنها لا تتحرك إلا بما هو فيه .
ودخل الشبلي على أبي الحسين النوري وهو معتكف فوجده ساكنا حسن الاجتماع لا يتحرك من ظاهره شيء فقال له من أين أخذت هذه المراقبة والسكون فقال من سنور كانت لنا فكانت إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر لا تتحرك لها شعرة .
وقال أبو عبد الله بن خفيف خرجت من مصر أريد الرملة للقاء أبي علي الروذباري فقال لي عيسى بن يونس المصري المعروف بالزاهد وأن في صور شابا وكهلا قد اجتمعا على حال المراقبة فلو نظرت إليهما نظرة لعلك تستفيد منهما فدخلت صورا وأنا جائع عطشان وفي وسطى خرقة وليس على كتفي شيء فدخلت المسجد فإذا بشخصين قاعدين مستقبلي القبلة فسلمت عليهما فما أجاباني فسلمت ثانية وثالثة فلم أسمع الجواب فقلت نشدتكما بالله إلا رددتما علي السلام فرفع الشاب رأسه من مرقعته فنظر إلي وقال يا الدنيا قليل وما بقي من القليل إلا القليل فخذ من القليل الكثير يا ابن خفيف ما أقل شغلك حتى تتفرغ إلى لقائنا قال فأخذ بكليتي ثم طأطأ رأسه في المكان فبقيت عندهما حتى صلينا الظهر والعصر فذهب جوعي وعطشي وعنائي فلما كان وقت العصر قلت عظني فرفع رأسه إلي وقال يا ابن خفيف نحن أصحاب المصائب ليس لنا لسان العظة فبقيت عندهما ثلاثة أيام لا آكل ولا أشرب ولا أنام ولا رأيتهما أكلا شيئا ولا شربا فلما . كان اليوم الثالث قلت في سري أحلفهما أن يعظاني لعلي أن أنتفع بعظتهما فرفع الشاب رأسه وقال لي يا ابن خفيف عليك بصحبة من يذكرك الله رؤيته وتقع هيبته على قلبك يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله والسلام قم عنا فهذه درجة المراقبين الذين غلب على قلوبهم الإجلال والتعظيم فلم يبق فيهم متسع لغير ذلك . ابن خفيف