السبب السادس الكبر : ، وأغلب الأدواء ، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة ، وجهد جهيد ؛ وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله ، عظيم عند الناس ، وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما ، بل لا قدر لهما أصلا إلا إذا كان معهما علم وعمل . بالعلم ، وهو أعظم الآفات
ولذلك قال إن للعلم طغيانا كطغيان المال . كعب الأحبار
وكذلك قال رضي الله تعالى عنه : العالم إذا زل زل بزلته عالم فيعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل ؛ لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم . عمر
ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين :
أحدهما : أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد ، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم فإن ، من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : . . « يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا ، فيطيف به أهل النار ، فيقولون ما لك : فيقول : كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه »
وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب ، فقال عز وجل : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا أراد به علماء اليهود .
وقال في بلعم بن باعوراء واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها حتى بلغ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث قال رضي الله عنهما أوتي ابن عباس بلعم كتابا ، فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه إليها فمثله بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث أي : سواء آتيته الحكمة أو لم أوته لا يدع شهوته ويكفي العالم هذا الخطر ، فأي عالم لم يتبع شهوته وأي عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه ؟! فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده ، فإن خطره أعظم من خطر غيره ، كما أن قدره أعظم من قدر غيره فهذا بذاك .
وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه ، إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فقيرا فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال ، والعياذ بالله منه .
فهذا الخطر يمنع من التكبر فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه فكيف يتكبر من هذا حاله ؟! فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم وقد كان بعضهم يقول : يا ليتني لم تلدني أمي ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول : يا ليتني كنت هذه التبنة ، ويقول الآخر : ليتني كنت طيرا أوكل ويقول الآخر : ليتني لم أك شيئا مذكورا . كل ذلك خوفا من خطر العاقبة ، فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالا من الطير ومن التراب .
ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره ، ورأى نفسه كأنه شر الخلق .
ومثاله مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها ، وشك في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا ، فأخبره مخبر أن سيده أرسل إليه رسولا يخرجه من كل ما هو فيه عريانا ذليلا ، ويلقيه على بابه في الحر والشمس زمانا طويلا ، حتى إذا ضاق عليه الأمر ، وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه .
وفتش عن جميع أعماله ، قليلها وكثيرها ، ثم أمر به إلى سجن ضيق ، وعذاب دائم ، لا يروح عنه ساعة ، وقد علم أن سيده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك ، وعفا عن بعضهم ، وهو لا يدري من أي الفريقين يكون فإذا تفكر في ذلك انكسرت نفسه ، وذل ، وبطل عزه وكبره ، وظهر حزنه وخوفه ، ولم يتكبر على أحد من الخلق ، بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب ، فكذلك العالم إذا تفكر فيما ضيعه من أوامر ربه بجنايات على جوارحه ، وبذنوب في باطنه من الرياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره ، وعلم بما هو بصدده من الخطر العظيم ، فارقه كبره لا محالة .