الأول : النسب فيمن ، يعتريه فليداو قلبه بمعرفة أمرين: الكبر من جهة النسب
أحدهما : أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ؛ ولذلك قيل :
لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
فالمتكبر بالنسب إن كان خسيسا في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره ؟! بل لو كان الذي ينسب إليه حيا لكان له أن يقول : الفضل لي ، ومن أنت ، وإنما أنت دودة خلقت من بولي ، أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس هيهات بل هما ! متساويان ، والشرف للإنسان لا للدودة .الثاني : أن يعرف ، نسبه الحقيقي ، فيعرف أباه وجده ؛ فإن أباه القريب نطفة قذرة ، وجده البعيد تراب ذليل وقد ، عرفه الله تعالى نسبه فقال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينه حتى صار حمأ مسنونا ، كيف يتكبر ؟! وأخس الأشياء ما إليه انتسابه ؛ إذ يقال : يا أذل من التراب ، ويا أنتن من الحمأة ، ويا أقذر من المضغة .
فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول : افتخر بالقريب دون البعيد فالنطفة والمضغة ، أقرب إليه من الأب ، فليحقر نفسه بذلك ، ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربه فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده فإذن : أصله من التراب ، وفصله من النطفة ، فلا أصل له ولا فصل .
، وهذه غاية خسة النسب ، فالأصل يوطأ بالأقدام ، والفصل تغسل منه الأبدان .
فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ، ومن عرفه لم يتكبر بالنسب ، ويكون مثله بعد هذه المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد أخبره بذلك والداه ، فلم يزل فيه نخوة الشرف فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول ، لا يشك في قولهم ، أنه ابن هندي حجام ، يتعاطى القاذورات وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له شك في صدقهم ، أفترى أن ذلك يبقي شيئا من كبره ؟! لا ، بل يصير عند نفسه أحقر الناس وأذلهم ، فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره .
فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله ، وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب ؛ إذ لو كان أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم ، فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه .
السبب الثاني التكبر : ولا ينظر إلى باطنه نظر البهائم . بالجمال ، ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ،
ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال ؛ فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه ، الرجيع في أمعائه ، والبول في مثانته ، والمخاط في أنفه والبزاق ، في فيه ، والوسخ في أذنيه ، والدم في عروقه ، والصديد تحت بشرته ، والصنان تحت إبطه يغسل ، الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين ، ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين ؛ ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره ، فضلا عن أن يمسه أو يشمه كل ذلك ليعرف قذارته وذله ، هذا في حال توسطه .
وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور ، من النطفة ودم الحيض وأخرج من مجرى الأقذار .
إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم ، مفيض دم الحيض ، ثم خرج من مجرى القذر . قال أنس رحمه الله : كان رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا أنفسنا ، ويقول : خرج أحدكم من مجرى البول مرتين وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز . أبو بكر الصديق
ما هذه مشية من في بطنه خراء ؛ إذ رآه يتبختر وكان ذلك ، قبل خلافته وهذا أوله ووسطه .
ولو ترك نفسه في حياته يوما لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط .
فإذا نظر أنه خلق من أقذار ، وأسكن في أقذار ، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار لم يفتخر بجماله ، الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي فبينما هو كذلك إذ صار هشيما تذروه الرياح ، كيف ولو كان جماله باقيا وعن هذه القبائح خاليا لكان يجب أن لا يتكبر به على القبيح إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه ، ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه ، كيف ولا بقاء له ، بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة ، أو سبب من الأسباب فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب ! فمعرفة هذه الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها .