الثاني : . العمل والعبادة ، وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر ، واستمالة قلوب الناس الزهاد والعباد ، ويترشح الكبر منهم في الدين والدنيا
أما في الدنيا فهو أنهم : يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حق العلماء ، وكأنهم يرون عبادتهم منة على الخلق .
وأما في الدين : فهو أن يرى الناس هالكين ، ويرى نفسه ناجيا ، وهو الهالك تحقيقا مهما رأى ذلك قال صلى الله عليه وسلم : وإنما قال ذلك؛ لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله مغتر بالله آمن من مكره، غير خائف من سطوته، وكيف لا يخاف ويكفيه شرا احتقاره لغيره، قال صلى الله عليه وسلم: « إذا سمعتم الرجل يقول : هلك الناس ، فهو أهلكهم » « كفى بالمرء شرا أن يحقر أخاه المسلم .
وكم من الفرق بينه وبين من يحبه لله ، ويعظمه لعبادته ، ويستعظمه ، ويرجو له ما لا يرجوه لنفسه ! فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله ، فهم يتقربون إلى الله تعالى بالدنو منه ، وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم ، كأنه مترفع عن مجالستهم ، فما أجدرهم إذ أحبوه لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل ! وما أجدره إذ ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى حد الإهمال ! كما روي أن رجلا في بني إسرائيل كان يقال له : خليع بني إسرائيل ؛ لكثرة فساده مر برجل آخر يقال له : عابد بني إسرائيل ؛ وكان على رأس العابد غمامة تظله فلما مر الخليع به ، فقال الخليع في نفسه : أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل .
فلو جلست إليه لعل الله يرحمني فجلس إليه ، فقال العابد : أنا عابد بني إسرائيل ، وهذا خليع بني إسرائيل ، فكيف يجلس إلي ؟! فأنف منه وقال له : قم عني ، فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان : مرهما فليستأنفا العمل ؛ فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد .
وفي رواية أخرى : فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع .
وهذا يعرفك أن الله تعالى إنما يريد من العبيد قلوبهم ، فالجاهل العاصي إذا تواضع هيبة لله وذل خوفا ، منه فقد أطاع الله بقلبه ، فهو أطوع لله من العالم المتكبر والعابد المعجب .
وكذلك روي أن رجلا في بني إسرائيل أتى عابدا من بني إسرائيل فوطئ على رقبته وهو ساجد ، فقال ارفع : فوالله لا يغفر الله لك ، فأوحى الله إليه: أيها المتألي علي، بل أنت لا يغفر الله لك .
وكذلك قال الحسن : وحتى إن صاحب الصوف أشد كبرا من صاحب المطرف الخز أي: صاحب الخز يذل لصاحب الصوف، ويرى الفضل له، وصاحب الصوف يرى الفضل لنفسه، وهذه الآفة قلما ينفك منها كثير من العباد، وهو أنه لو استخف به مستخف، وآذاه مؤذ، استبعد أن يغفر الله له، ولا يشك في أنه صار ممقوتا عند الله، ولو آذى مسلما آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار؛ وذلك لعظم قدر نفسه عنده، وهو جهل، وجمع بين العجب والكبر والاغترار بالله .