[ ص: 14 - 15 ] الفصل الأول استعمال الأصلح
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح
مكة وتسلم مفاتيح
الكعبة من
بني شيبة طلبها منه
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس ، ليجمع له بين سقاية الحاج ، وسدانة
البيت ، فأنزل الله هذه الآية ، بدفع مفاتيح
الكعبة إلى
بني شيبة
فيجب
nindex.php?page=treesubj&link=7685على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين ، أصلح من يجده لذلك العمل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=37594 : من ولي من أمر المسلمين شيئا ، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله } .
[ ص: 16 ] وفي رواية : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=37108من قلد رجلا عملا على عصابة ، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه ، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين } رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم في صحيحه وروى بعضهم أنه من قول
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر nindex.php?page=showalam&ids=12لابن عمر روي ذلك عنه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات ، من نوابه على الأمصار ، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان ، والقضاة ، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار ، وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات ، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين .
وعلى كل واحد من هؤلاء ، أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده ، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين ، والمقرئين ، والمعلمين ، وأمير الحاج ، والبرد ، والعيون الذين هم القصاد ، وخزان الأموال ، وحراس الحصون ، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ، ونقباء العساكر الكبار والصغار ، وعرفاء القبائل والأسواق ، ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون .
فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين ، من هؤلاء وغيرهم ، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع ، أصلح من يقدر عليه ، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية ، أو يسبق في الطلب .
بل
[ ص: 17 ] ذلك سبب المنع ، فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=6713أن قوما دخلوا عليه فسألوه الولاية ، فقال : إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه } .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=77لعبد الرحمن بن سمرة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30244يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه } أخرجاه في الصحيحين
وقال صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36772من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه ، أنزل الله إليه ملكا يسدده } رواه أهل السنن .
فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره ، لأجل قرابة بينهما ، أو ولاء عتاقة أو صداقة ، أو موافقة في بلد
[ ص: 18 ] أو مذهب أو طريقة أو جنس ، كالعربية والفارسية والتركية والرومية ، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة ، أو غير ذلك من الأسباب ، أو لضغن في قلبه على الأحق ، أو عداوة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=27يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } .
ثم قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=28واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم } .
فإن الرجل لحبه لولده ، أو لعتيقه ، قد يؤثره في بعض الولايات ، أو يعطيه ما لا يستحقه ، فيكون قد خان أمانته ، كذلك قد يؤثره زيادة
[ ص: 19 ] في ماله أو حفظه ، بأخذ ما لا يستحقه ، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات ، فيكون قد خان الله ورسوله ، وخان أمانته .
ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه ، يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده ، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله ، ويذهب ماله .
وفي ذلك ، الحكاية المشهورة ، أن بعض خلفاء
بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك فقال : أدركت
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال ، وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان في مرض موته ، فقال : أدخلوهم علي ، فأدخلوهم ، بضعة عشر ذكرا ، ليس فيهم بالغ ، فلما رآهم ذرفت عيناه ، ثم قال : يا بني ، والله ما منعتكم حقا هو لكم ، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم ، وإنما أنتم أحد رجلين : إما صالح ، فالله يتولى الصالحين ، وإما غير صالح ، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله ، قوموا عني قال : فلقد رأيت ولده ، حمل على مائة فرس في سبيل الله ، يعني أعطاها لمن يغزو عليها .
قلت : هذا وقد كان خليفة المسلمين ، من أقصى المشرق ،
بلاد الترك ، إلى أقصى المغرب ،
بلاد الأندلس وغيرها ، ومن
جزائر قبرص وثغور
الشام والعواصم
كطرسوس ونحوها ، إلى أقصى
اليمن
وإنما أخذ كل واحد من أولاده ، من تركته شيئا يسيرا ، يقال : أقل من
[ ص: 20 ] عشرين درهما - قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه ، فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار ، ولقد رأيت بعضهم ، يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه - وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله ، ما فيه عبرة لكل ذي لب .
وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع ، مثل ما تقدم ، ومثل {
nindex.php?page=hadith&LINKID=27004قوله nindex.php?page=showalam&ids=1584لأبي ذر رضي الله عنه في الإمارة : إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها } . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في صحيحه عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=3585إذا ضيعت الأمانة ، انتظر الساعة } .
وقد أجمع المسلمون على معنى هذا ، فإن وصي اليتيم ، وناظر الوقف ، ووكيل الرجل في ماله ، عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح ، كما قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=34ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ولم يقل إلا بالتي هي حسنة وذلك لأن الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=28854كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن [ ص: 21 ] رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ، وهي مسئولة عن رعيتها ، والولد راع في مال أبيه ، وهو مسئول عن رعيته ، والعبد راع في مال سيده ، وهو مسئول عن رعيته ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته } أخرجاه في الصحيحين
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34664ما من راع يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت ، وهو غاش لها ، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة } رواه
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم .
[ ص: 22 ]
ودخل
nindex.php?page=showalam&ids=12150أبو مسلم الخولاني ، على
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية بن أبي سفيان ، فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فقالوا : قل السلام عليك : أيها الأمير ، فقال السلام أيها الأجير فقالوا : قل أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل الأمير فقال
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية : دعوا
nindex.php?page=showalam&ids=12150أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول فقال : إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها ، فإن أنت هنأت جرباها ، وداويت مرضاها ، وحبست أولاها على أخراها وفاك سيدها أجرك ، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها ، ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها
وهذا ظاهر الاعتبار ، فإن الخلق عباد الله ، الولاة نواب الله على عباده ، وهم وكلاء العباد على أنفسهم ، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر ، ففيهم معنى الولاية والوكالة ، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلا ، وترك من هو أصلح للتجارة أو المقارب منه ، وباع السلعة بثمن ، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن ، فقد خان صاحبه ، لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قربة ، فإن صاحبه يبغضه ويذمه ، أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه .
[ ص: 14 - 15 ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ اسْتِعْمَالُ الْأَصْلَحِ
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ
مَكَّةَ وَتَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ
الْكَعْبَةِ مِنْ
بَنِي شَيْبَةَ طَلَبَهَا مِنْهُ
nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسُ ، لِيَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ ، وَسَدَانَةِ
الْبَيْتِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ، بِدَفْعِ مَفَاتِيحِ
الْكَعْبَةِ إلَى
بَنِي شَيْبَةَ
فَيَجِبُ
nindex.php?page=treesubj&link=7685عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ ، أَصْلَحَ مَنْ يَجِدُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=37594 : مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ، فَوَلَّى رَجُلًا وَهُوَ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
[ ص: 16 ] وَفِي رِوَايَةٍ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=37108مَنْ قَلَّدَ رَجُلًا عَمَلًا عَلَى عِصَابَةٍ ، وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ أَرْضَى مِنْهُ ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ } رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14070الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ nindex.php?page=showalam&ids=12لِابْنِ عُمَرَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا لِمَوَدَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوِلَايَاتِ ، مِنْ نُوَّابِهِ عَلَى الْأَمْصَارِ ، مِنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ نُوَّابُ ذِي السُّلْطَانِ ، وَالْقُضَاةِ ، وَمِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَمُقَدَّمِي الْعَسَاكِرِ وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ ، وَوُلَاةِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَالشَّادِّينَ وَالسُّعَاةِ عَلَى الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ .
وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ، أَنْ يَسْتَنِيبَ وَيَسْتَعْمِلَ أَصْلَحَ مَنْ يَجِدُهُ ، وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إلَى أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ ، وَالْمُقْرِئِينَ ، وَالْمُعَلِّمِينَ ، وَأَمِيرِ الْحَاجِّ ، وَالْبُرُدِ ، وَالْعُيُونِ الَّذِينَ هُمْ الْقُصَّادُ ، وَخُزَّانِ الْأَمْوَالِ ، وَحُرَّاسِ الْحُصُونِ ، وَالْحَدَّادِينَ الَّذِينَ هُمْ الْبَوَّابُونَ عَلَى الْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ ، وَنُقَبَاءِ الْعَسَاكِرِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ ، وَعُرَفَاءِ الْقَبَائِلِ وَالْأَسْوَاقِ ، وَرُؤَسَاءِ الْقُرَى الَّذِينَ هُمْ الدَّهَّاقُونَ .
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ ، مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقَدِّمُ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ طَلَبَ الْوِلَايَةَ ، أَوْ يَسْبِقُ فِي الطَّلَبِ .
بَلْ
[ ص: 17 ] ذَلِكَ سَبَبُ الْمَنْعِ ، فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=6713أَنَّ قَوْمًا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَسَأَلُوهُ الْوِلَايَةَ ، فَقَالَ : إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ } .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=77لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30244يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ ، فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِّلْت إلَيْهِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=36772مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ ، أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ .
فَإِنْ عَدَلَ عَنْ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إلَى غَيْرِهِ ، لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا ، أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ ، أَوْ مُوَافَقَةٍ فِي بَلَدٍ
[ ص: 18 ] أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ جِنْسٍ ، كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ ، أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ ، أَوْ لِضِغْنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=27يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
ثُمَّ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=28وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
فَإِنَّ الرَّجُلَ لِحُبِّهِ لِوَلَدِهِ ، أَوْ لِعَتِيقِهِ ، قَدْ يُؤْثِرُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ ، أَوْ يُعْطِيهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ ، كَذَلِكَ قَدْ يُؤْثِرُهُ زِيَادَةً
[ ص: 19 ] فِي مَالِهِ أَوْ حِفْظِهِ ، بِأَخْذِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ، أَوْ مُحَابَاةَ مَنْ يُدَاهِنُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَخَانَ أَمَانَتَهُ .
ثُمَّ إنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْأَمَانَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ هَوَاهُ ، يُثَبِّتُهُ اللَّهُ فَيَحْفَظُهُ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بَعْدَهُ ، وَالْمُطِيعُ لِهَوَاهُ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَيُذِلُّ أَهْلَهُ ، وَيُذْهِبُ مَالَهُ .
وَفِي ذَلِكَ ، الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ ، أَنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ
بَنِي الْعَبَّاسِ سَأَلَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَمَّا أَدْرَكَ فَقَالَ : أَدْرَكْت
nindex.php?page=showalam&ids=16673عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَقِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْفَرْت أَفْوَاهَ بَنِيك مِنْ هَذَا الْمَالِ ، وَتَرَكْتَهُمْ فُقَرَاءَ لَا شَيْءَ لَهُمْ وَكَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، فَقَالَ : أَدْخِلُوهُمْ عَلَيَّ ، فَأَدْخَلُوهُمْ ، بِضْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا ، لَيْسَ فِيهِمْ بَالِغٌ ، فَلَمَّا رَآهُمْ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : يَا بَنِيَّ ، وَاَللَّهِ مَا مَنَعْتُكُمْ حَقًّا هُوَ لَكُمْ ، وَلَمْ أَكُنْ بِاَلَّذِي آخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ فَأَدْفَعُهَا إلَيْكُمْ ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا صَالِحٌ ، فَاَللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ، وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ ، فَلَا أَتْرُكُ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، قُومُوا عَنِّي قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْت وَلَدَهُ ، حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، يَعْنِي أَعْطَاهَا لِمَنْ يَغْزُو عَلَيْهَا .
قُلْت : هَذَا وَقَدْ كَانَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ ، مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ ،
بِلَادِ التُّرْكِ ، إلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ ،
بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا ، وَمِنْ
جَزَائِرِ قُبْرُصَ وَثُغُورِ
الشَّامِ وَالْعَوَاصِمِ
كَطَرَسُوسَ وَنَحْوِهَا ، إلَى أَقْصَى
الْيَمَنِ
وَإِنَّمَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ ، مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْئًا يَسِيرًا ، يُقَالُ : أَقَلُّ مِنْ
[ ص: 20 ] عِشْرِينَ دِرْهَمًا - قَالَ وَحَضَرْتُ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ وَقَدْ اقْتَسَمَ تَرِكَتَهُ بَنُوهُ ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ، وَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَهُمْ ، يَتَكَفَّفُ النَّاسَ - أَيْ يَسْأَلُهُمْ بِكَفِّهِ - وَفِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحِكَايَاتِ وَالْوَقَائِعِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَسْمُوعَةِ عَمَّا قَبْلَهُ ، مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ .
وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ أَمَانَةٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي مَوَاضِعَ ، مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ، وَمِثْلُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=27004قَوْلِهِ nindex.php?page=showalam&ids=1584لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْإِمَارَةِ : إنَّهَا أَمَانَةٌ ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ ، إلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا ، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا } . رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مُسْلِمٌ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=3585إذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ ، انْتَظِرْ السَّاعَةَ } .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْنَى هَذَا ، فَإِنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ ، وَنَاظِرَ الْوَقْفِ ، وَوَكِيلَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ ، عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ بِالْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=34وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَلَمْ يَقُلْ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ حَسَنَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِيَ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ رَاعِي الْغَنَمِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=28854كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ [ ص: 21 ] رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْوَلَدُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=34664مَا مِنْ رَاعٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً ، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ ، وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا ، إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ } رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مُسْلِمٌ .
[ ص: 22 ]
وَدَخَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=12150أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ ، عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=33مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ ، فَقَالُوا : قُلْ السَّلَامُ عَلَيْك : أَيُّهَا الْأَمِيرُ ، فَقَالَ السَّلَامُ أَيُّهَا الْأَجِيرُ فَقَالُوا : قُلْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ فَقَالُوا قُلْ الْأَمِيرُ فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=33مُعَاوِيَةُ : دَعُوا
nindex.php?page=showalam&ids=12150أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ فَقَالَ : إنَّمَا أَنْتَ أَجِيرٌ اسْتَأْجَرَك رَبُّ هَذِهِ الْغَنَمِ لِرِعَايَتِهَا ، فَإِنْ أَنْتَ هَنَّأَتْ جَرْبَاهَا ، وَدَاوَيْت مَرْضَاهَا ، وَحَبَسْت أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا وَفَّاك سَيِّدُهَا أَجْرَك ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَهْنَأْ جَرْبَاهَا وَلَمْ تُدَاوِ مَرْضَاهَا ، وَلَمْ تَحْبِسْ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا عَاقَبَك سَيِّدُهَا
وَهَذَا ظَاهِرُ الِاعْتِبَارِ ، فَإِنَّ الْخَلْقَ عِبَادُ اللَّهِ ، الْوُلَاةُ نُوَّابُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ، وَهُمْ وُكَلَاءُ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَعَ الْآخَرِ ، فَفِيهِمْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالْوَكَالَةِ ، ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْوَكِيلُ مَتَى اسْتَنَابَ فِي أُمُورِهِ رَجُلًا ، وَتَرَكَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الْمُقَارِبُ مِنْهُ ، وَبَاعَ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ ، وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهَا بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ ، فَقَدْ خَانَ صَاحِبَهُ ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ بَيْنَ مَنْ حَابَاهُ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أَوْ قُرْبَةٌ ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يُبْغِضُهُ وَيَذُمُّهُ ، أَنَّهُ قَدْ خَانَ وَدَاهَنَ قَرِيبَهُ أَوْ صِدِّيقَهُ .