فصل في الكلام على تبديل التوراة وتحريفها
وقد اختلف في التوراة التي بأيديهم، هل هي مبدلة، أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال:
1 - قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدل، وغلا بعضهم حتى قال: يجوز الاستجمار بها.
2 - وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه والكلام: إنما وقع التبديل في التأويل.
قال في «صحيحه»: البخاري يحرفون [النساء: 46]: يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهو اختيار الرازي أيضا.
وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء، فأجاز هذا المذهب، ووهى غيره، فأنكر عليه، فأظهر خمسة عشر نقلا به.
ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبا وشمالا، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله، فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ حتى لا يبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة، وهذا مما يحيله العقل.
[ ص: 456 ] قالوا: وقد قال الله لنبيه: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [آل عمران: 93].
قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة «الرجم»، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة.
ولذا لما قرأوها على النبي -صلى الله عليه وسلم- وضع القارئ يده على آية الرجم. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها. فإذا هي تلوح تحتها.
وتوسطت طائفة، فقالوا: قد زيد فيها وغير أشياء يسيرة جدا، واختاره شيخنا في «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح»، قال: وهذا كما في التوراة عندهم: إن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك، بكرك، أو وحيدك إسحاق.
قلت: والزيادة باطلة من وجوه عشرة:
الأول: أن بكره، ووحيده إسماعيل باتفاق الملل الثلاث.
الثاني: أنه سبحانه أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة ويسكنها في برية «مكة»؛ لئلا تغار «سارة» فأمره بإبعاد السرية وولدها عنها، فكيف يأمر -بعد هذا- بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السرية؟! هذا مما لا تقضتيه الحكمة.
الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعا؛ ولذا جعل الله سبحانه ذبح الهدايا والقرابين بمكة؛ تذكيرا للأمة بما كان من إبراهيم مع ولده هنالك.
الرابع: أن الله بشر سارة أم إسحاق بإسحاق، ومن ورائه يعقوب، فبشرها بهما جميعا.
فكيف يأمر -بعد ذلك- بذبح «إسحاق»، وقد بشر أبويه بولد ولده؟!
الخامس: أن الله لما ذكر قصة الذبح، وتسليمه نفسه لله، وإقدام إبراهيم على ذبحه، وفرغ من قصته، قال بعدها: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [الصافات: 112] فشكر الله له استسلامه، وبذل ولده له، وجعل من آياته على ذلك أن آتاه إسحاق، فنجا إسماعيل من الذبح، وزاد عليه إسحاق.
[ ص: 457 ] السادس: أن إبراهيم -عليه السلام- سأل ربه الولد، فأجاب دعاءه، وبشره به، فلما بلغ معه السعي، أمره بذبحه، قال تعالى: وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم [الصافات: 99-101].
فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه، وسؤاله ربه أن يهب له ولدا.
وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعا، بنص القرآن.
وأما إسحاق: فإنه بشر به من غير دعوة منه، بل على كبر السن، وكون مثله لا يولد له، وإنما كانت البشارة به لامرأته «سارة» ولذا تعجبت من حصول الولد منها.
وانظر تفاوت سياق البشارتين، فإنه -في الأولى- قال: وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم .
وفي الثانية: ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالوا أتعجبين من أمر الله [هود: 69- 73] وكون إحدى مخرج البشارتين غير مخرج الأخرى، والبشارة الأولى كانت له، والثانية كانت لها.
والبشارة الأولى: هي التي أمر فيها بذبح من بشر به فيها دون الثانية.
السابع: أن إبراهيم لم يقدم بإسحاق إلى مكة البتة، ولم يفرق بينه وبين أمه، وكيف يأمر الله أن يذهب بابن امرأته، فيذبحه بموضع ضرتها، وفي بلدها، ويدع ابن ضرتها؟!.
الثامن: أن الله لما اتخذ إبراهيم خليلا، والخلة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقا بربه، ليس فيه سعة لغيره، فلما سأل الولد، وهب لهإسماعيل، فتعلق به شعبة من قلبه.
فأراد خليله أن تخلص تلك الشعبة له، فامتحنه بذبح ولده، فلما امتثل، [ ص: 458 ] خلصت تلك الخلة لله، فنسخ الأمر بذبحه؛ لحصول الغرض، وهو العزم، وتوطين النفس على الامتثال.
ومن المعلوم أن هذا إنما يكون في أول الأولاد، لا في آخرها.
فلما حصل هذا المقصود مع الولد الأول لم يحتج إلى مثله مع الولد الآخر، فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه.
فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر، لكان قد أقره في الأول على مزاحمة الخلة به مدة طويلة، ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك، وهو خلاف مقتضى الحكمة، فليتأمل.
التاسع: أن إبراهيم إنما رزق إسحاق على الكبر، وإسماعيل رزقه في عنفوان شبابه. والعادة أن القلب أعلق بالأول.
العاشر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفتخر بأنه ابن الذبيحين، يعني: أباه «عبد الله»، وجده «إسماعيل».
والمقصود أن هذه اللفظة مما زادوه في التوراة.
والسبب في ذلك أن موسى -عليه السلام- صان التوراة عن بني إسرائيل خوفا من افتراقهم بعده في تأويلها، وتفرقهم أحزابا.
وإنما دفعها إلى الأئمة بني لبوى الأسودة، واحدة اشتملت على ذم طبائعهم، وأنهم سيخالفون شريعة التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك؛ لتكون شاهدة عليهم.
ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم، ولا سنة، بل كان الواحد يحفظ فصلا منها، والآخر يحفظ فصلا آخر.
فلما قتل «بختنصر» من يحفظ أكثر التوراة من الأئمة الهارونيين، وأحرق هياكلهم، جمع «عزير» من محفوظاته ما اجتمعت منه هذه التوراة التي بأيديهم، وأملى ذلك -غيبا- عليهم.
ولذا بالغوا في تعظيمه حتى غلوا فيه.
[ ص: 459 ] فهذه التوراة الموجودة عندهم من إملاء «عزير» فيها كثير من التوراة، تم تداولتها أمة قد مزقها الله، فلحقها أمور ثلاثة:
الأول: بعض الزيادة والنقصان.
الثاني: اختلاف الترجمة.
الثالث: اختلاف التأويل، ويذكر من ذلك أمثلة:
المثال الأول: ما تقدم من قوله: «ولحم في الصحراء فريسة، لا تأكلوا وللكلب ألقوه» وتقدم بيان تحريفهم له.
المثال الثاني: قوله في التوراة: «نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم» فحرفوا تأويله، وقالوا: «هي بشارة نبي من بني إسرائيل» وهو باطل من وجوه.
الأول: أنه لو أراد ذلك لقال: من أنفسهم.
الثاني: أن المعهود من الإخوة في التوراة خلاف ما قالوا.
ففي الجزء الأول من السفر الخامس: «أنتم عامرون من لحوم إخوتكم «بني العيص» القدس في «سيعير» وإياكم أن تطمعوا في شيء من أرضهم» فإذا كان بنو العيص إخوة لبني إسرائيل، فكذلك بنو إسماعيل.
الثالث: أن هذه البشارة لو كانت لـ«شمويل» أو غيره من بني إسرائيل لم يصح أن يقال: بنو إسرائيل إخوة بني إسرائيل.
الرابع: أنه قال: «أقيم لهم نبيا مثلك» وفي موضع آخر: «أنزل عليهم توراة مثل توراة موسى».
ومعلوم: أن ليس في بني إسرائيل من نزل عليه توراة مثل توراة موسى إلا محمد، والمسيح، لكن المسيح من أنس بني إسرائيل.
المثال الثالث: قوله في التوراة: «جاء الله من «طور سينا» وأشرق نوره من «سيعير»، واستعلن من جبال «فاران» ومعه ديوان المقدسين».
وهم يعلمون أن جبل «سيعير» جبل السراة الذي يسكنه بنو العيص، الذين آمنوا بعيسى، وأن هذا الجبل كان مقام المسيح، وأن سينا هو جبل الطور.
[ ص: 460 ] وأما جبال فاران، فهم يحملونها على جبال الشام تحريفا، وإلا فإنها جبال مكة.
و«فاران» من أسماء مكة، وعليه نص التوراة: «أن إسماعيل لما فارق أباه، أقام في برية «فاران» وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر» فثبت بنص التوراة أن جبال «فاران» مسكن ولد إسماعيل.
فإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوة تنزل على جبال «فاران» لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل؛ لأنهم سكانها.
ومن المعلوم أنها لم تنزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذه فصول مختصرة في كيد الشيطان وتلاعبه بالأمم؛ ليعرف بها المسلم قدر رحمة الله عليه، وما من به عليه من العلم والإيمان. انتهى من «إغاثة اللهفان» للحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى- ملخصا.
تم بحمد الله سبحانه وحسن توفيقه طبع الجزء الثاني من كتاب الدين الخالص، وبه كمل إنجاز النصيب الأول.
ويليه بعون الله الجزء الثالث من النصيب الثاني، وأوله: «باب في الاعتصام بالسنة والاجتناب عن البدعة».
والله المستعان على الإتمام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.