وقال تعالى: والذين يدعون [النحل: 20] أي: الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه صفتهم هذه الصفات الثلاث الآتية المنافية للألوهية، وهي:
1 - أنهم لا يخلقون شيئا من المخلوقات أصلا، لا كبيرا، ولا صغيرا، ولا جليلا، ولا حقيرا.
2 - وهم يخلقون أي: فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؟ وفي هذه الآية زيادة بيان؛ لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال، بخلاف قوله سبحانه: أفمن يخلق كمن لا يخلق [النحل: 17]؛ فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال.
[ ص: 27 ] 3 - ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم، فقال: أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [النحل: 21].
قيل: المعنى: لا تشعر هذه الجمادات من الأصنام وغيرها، أيان يبعث عبدتهم من المشركين الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم؛ لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة، فضلا عن الأمور التي لا يعلمها إلا الله.
وقيل: معناه: ما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث؟ ومتى يبعثها الله؟ وبه بدأ القاضي تبعا "للكشاف". ويؤيد ذلك ما روي: أن الله يبعث الأصنام، ويخلق لها أرواحا معها شياطينها، فيؤمر بكلها إلى النار، ويدل على هذا قوله: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [الأنبياء: 98).
وقيل: الضمير للكفار. وعلى القول بأن الضميرين، أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء؛ جريا على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل. والأصح أن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
فالآية تشمل كل عابد غير الله، سواء كان صنما، أو وثنا، أو ملكا، أو وليا، أو جنا، أو شيخا، أو كبيرا من الصلحاء، أو الطلحاء؛ فإن النذر لغيره تعالى، والذبح له، وتعظيمه كتعظيم الله، ودعاءه عند الشدائد، وطلب القضاء منه للحوائج، والاستغاثة به، والسجدة له، والطواف حول قبره، والتذلل له، واعتقاد التصرف له في العالم، كل ذلك من جنس عبادة غير الله الذي لا يقدر على خلق شيء، وهو مخلوق لله تعالى. وهذا هو الشرك في الألوهية، وفي التصرف.
وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه [ ص: 28 ] [المائدة: 72].
وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك، فلا إله إلا الله، ولا رب ولا معبود غيره، ولا يستحق العبادة بحق سواه. ولو كان المسيح إلها لكان له من الأمر شيء، ولقدر أن يدفع عن نفسه أقل حال، ولم يقدر على أن يدفع أمر الموت عند نزوله بها.
وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم ومن في الأرض جميعا [المائدة: 17]؛ لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها. فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها، أعجز عن أن يدفع عن غيرها.
وذكر ومن في الأرض جميعا ؛ للدلالة على شمول قدرته، وأنه إذا أراد شيئا كان، لا معارض له في أمره وقضائه، ولا مشارك له في تصرفه في خلقه. فمن اعتقد التصرف لأحد من دونه، فهو مشرك به بلا شك ولا ريب. ومن هو المتصرف غيره، إذا لم يكن للأنبياء تصرف، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟!
وقال تعالى: قل أتعبدون من دون الله [المائدة: 76] متجاوزين إياه ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا المائدة: 76] بل هو عبد مأمور، وما جرى على يده من النفع، أو وقع من الضرر، فهو بإقدار الله، وتمكينه، وأما هو فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئا من ذلك، فضلا عن أن يملكه لغيره. ومن كان لا ينفع ولا يضر، فكيف تتخذونه إلها، وتعبدونه؟ وأي سبب يقتضي ذلك؟! والمراد هنا المسيح -عليه السلام.
[ ص: 29 ] وإيثار "ما" على "من" لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزل عن الألوهية رأسا، ببيان انتظامه -عليه السلام- في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا.
وقدم سبحانه "الضر" على "النفع "؛ لأن دفع المفاسد أهم من جلب المنافع. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية والإلهية؛ حيث لا يستطيع ضرا ولا نفعا.
وصفة الرب والإله أن يكون قادرا على كل شيء، لا يخرج مقدور عن قدرته. وهذا في حق عيسى النبي، فما ظنك بولي من الأولياء، أو صالح من الصلحاء، حيا كان أو ميتا؛ فإنه أولى بذلك، والله هو السميع العليم [المائدة: 76] ومن كان كذلك، فهو القادر على الضر والنفع؛ لإحاطته بكل مسموع ومعلوم، ومن جملة ذلك مضاركم ومنافعكم.
وقيل: إن الله هو المستحق للعبادة؛ لأنه يسمع كل شيء يعلمه، وإليه ينحو كلام الزمخشري.
وبالجملة: الآية الشريفة نص في سواء كان ذلك الأحد من الرسل، والأولياء، والملائكة، والصلحاء، والشهداء، أم من الجن والشياطين، والخبث والخبائث. وإذا لم يقدر أحد من الأنبياء؛ نفي الملك والتصرف عن غير الله، وأنه لا يملك أحد سواه نفعا ولا ضرا، كعيسى المسيح - عليه السلام - وغيره على ذلك، وهم من أفضل خلق الله تعالى، وأحبهم إليه، وأكرمهم عليه، فما ظنك بغيرهم من أعداء الله وأشرار الخلق؟ فإنهم أذل وأحقر، من أن يملكوا شيئا، أو يتصرفوا في خلق الله ذرة.