الدرجة الثانية
وقد أقروا بذلك، ولكن ذلك لم يدخلهم في الإسلام، ولم يخرجهم من الكفر، ولم يحرم دماءهم وأموالهم؛ لانتفاء شرطه وشطره من توحيد الألوهية. أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وهو الإقرار بأفعال الله تعالى، وصفاته، واتصافه سبحانه بذلك دون غيره؛ كالخالقية، والرازقية، والمالكية، وغيرها من صفات الربوبية، وأن غيره مربوب له، ومخلوق، ومرزوق، ومتصرف فيه، لا يملك لنفسه نفعا، ولا ضرا، ولا يملكون موتا، ولا حياة، ولا نشورا. [ ص: 204 ]
والدليل على ذلك آيات كريمات من القرآن:
منها: قوله تعالى: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون [يونس: 31-32].
ويفهم من الآية تفريقهم بين الألوهية، والربوبية، وأنهما حيث اجتمعا افترقا.
وعلى هذا يكون سؤال القبر في قوله: من ربك؟ أي: إلهك؛ لأن توحيد الربوبية لا يمتحن بها.
وكذلك قوله تعالى: قل أغير الله أبغي ربا [الأنعام:164] أي: إلها.
وأما افتراقهما، فقوله تعالى: قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس [الناس: 1- 3] فاعرف هذا.
وقال تعالى في سورة المؤمنين: قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [المؤمنون:84 - 91].
وهذا الاستفهام للتقرير.
وقد أخبرنا سبحانه بما يقولون، فقال في سورة العنكبوت: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون [العنكبوت: 61]. [ ص: 205 ]
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون [العنكبوت: 63].
وقال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف:106].
وتفسير هذه الآية: إيمانهم بتوحيد الربوبية، وشركهم في توحيد الألوهية.
وهاهنا اجتمع الشرك، والإيمان اللغوي.
وقال تعالى في سورة الزخرف: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون [الزخرف: 87].
وقال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [الزخرف: 9].
وكان دعوى فرعون أقبح دعوى، ومع ذلك قال الله تعالى فيه حاكيا عن موسى -عليه السلام-: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر [الإسراء: 102].
وقال إبليس اللعين: إني أخاف الله رب العالمين [الحشر: 16].
فبعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله تعالى بأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، وأن يوحدوه بكلمة لا إله إلا الله، معتقدين معناها، عاملين بمقتضاها، لا يدعون مع الله أحدا.
ولم ينكر المشركون على الرسول إلا طلبه إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله، ولا أنه يعبد، بل أنكروا كونه يفرد، وقالوا: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا [الأعراف: 70].
وكانت عبادتهم العكوف عند معابدهم، والهتف بها عند شدائدهم، والذبح لها، مع اعتقادهم أن صفات الربوبية لله وحده، ليس لشركائهم منها شيء، وأنهم إنما يريدون بذلك التقرب، والشفاعة منهم عند الله. [ ص: 206 ]