الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثالث والمائتان بين قاعدة ما يملك من المنفعة بالإجارات وبين قاعدة ما لا يملك منها بالإجارات ) فأقول متى اجتمعت في المنفعة ثمانية شروط ملكت بالإجارة ، ومتى انخرم منها شرط لا تملك الأول [ ص: 4 ] الإباحة احترازا من الغناء ، وآلات الطرب ونحوهما . الثاني قبول المنفعة للمعاوضة احترازا من النكاح . الثالث كون المنفعة متقومة احترازا من التافه الحقير الذي لا يقابل بالعوض ، واختلف في استئجار الأشجار لتجفيف الثياب فمنعه ابن القاسم . الرابع أن تكون مملوكة احترازا من الأوقاف على السكنى كبيوت المدارس والخوانق . الخامس أن لا يتضمن استيفاء عين احترازا من إجارة الأشجار لثمارها أو الغنم لنتاجها ، واستثني من ذلك إجارة المرضع للبنها للضرورة في الحضانة . السادس أن يقدر على تسليمها احترازا من استئجار الأخرس للكلام . السابع أن تحصل للمستأجر احترازا من العبادات والإجارة عليها كالصوم ، ونحوه . الثامن كونها معلومة احترازا من المجهولات من المنافع كمن استأجر آلة لا يدري ما يعمل بها أو دارا مدة غير معلومة فهذه الشروط إذا اجتمعت جازت المعاوضة ، وإلا امتنعت .

( تنبيه ) قال الشيخ أبو الوليد ابن رشد في كراء دور مكة أربع روايات المنع ، وهو المشهور ، وقاله أبو حنيفة لأنها فتحت عنوة ، والجواز ، وقاله الشافعي لأنها عنده فتحت صلحا أو من بها على أهلها عندنا على هذه الرواية ، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أنها فتحت عنوة والكراهة لتعارض الأدلة وتخصيصها بالموسم لكثرة الناس واحتياجهم للوقف لأن العنوة عندنا وقف ، واتفق مالك والشافعي وغيرهما رضي الله عن الجميع { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة مجاهدا بالأسلحة ناشرا للألوية باذلا للأمان لمن دخل دار أبي سفيان } ، وهذا لا يكون إلا في العنوة قطعا ، وإنما روي أن { خالد بن الوليد قتل قوما فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، وهو دليل الصلح .

( وجوابه ) يجب أن يعتقد أنه أمن تلك الطائفة ، وعصم دماءهم جمعا بين الأدلة .

( سؤال ) اعلم أن مقتضى هذه المباحث والنقول أن يحرم كراء دور مصر وأراضيها لأن مالكا قد صرح في الكتاب وغيره أنها فتحت عنوة ، ويلزم على ذلك تخطئة القضاء في إثبات الأملاك وعقود الإجارات والأخذ بالشفعات ونحو ذلك .

( جوابه ) إن أراضي العنوة اختلف العلماء فيها هل تصير وقفا بمجرد الاستيلاء ، وهو الذي حكاه الطرطوشي في تعليقه عن مالك أو للإمام قسمتها كسائر الغنائم أو هو مخير في ذلك ، والقواعد المتفق عليها أن مسائل الخلاف إذا اتصل ببعض أقوالها قضاء حاكم تعين القول به ، وارتفع الخلاف فإذا ما حكم بثبوت ملك في أرض العنوة ثبت الملك وارتفع الخلاف ، ويتعين ما حكم به الحاكم ، وهذا التقرير يطرد في مكة ومصر وغيرهما ، والقول بأن الدور وقف إنما يتناول الدور التي صادفها [ ص: 5 ] الفتح أما إذا انهدمت تلك الأبنية ، وبنى أهل الإسلام دورا غير دور الكفار فهذه الأبنية لا تكون وقفا إجماعا ، وحيث قال مالك لا تكرى دور مكة يريد ما كان في زمانه باقيا من دور الكفار التي صادفها الفتح ، واليوم قد ذهبت تلك الأبنية فلا يكون قضاء الحاكم بذلك خطأ نعم يختص ذلك بالقضاء بالملك والشفعة في الأرضين فإنها باقية أو نقول قول مالك رحمه الله تعالى إن البلد الفلاني فتح عنوة ليس هذا بفتيا يقلد فيها ، ولا مذهبا له يجب على مقلديه اتباعه فيه بل هذه شهادة ، وكذا لو قال مالك فلان أخذ ماله غصبا أو خالع امرأته لم يكن ذلك فتيا بل شهادة ، والقاعدة أن كل إمام أخبر عن حكم بسبب اتبع فيه ، وكان فتيا ومذهبا أو أخبر عن وقوع ذلك السبب فهو شهادة ، وأن المذهب الذي يقلد فيه الإمام خمسة أمور لا سادس لها الأحكام كوجوب الوتر ، والأسباب كالمعاطاة .

والشروط كالنية في الوضوء ، والموانع كالدين في الزكاة ، والحجاج كشهادة الصبيان والشاهد واليمين فهذه الخمسة إن اتفق على شيء منها فليس مذهبا لأحد بل ذلك للجميع فلا يقال إن وجوب رمضان مذهب مالك ولا غيره بل ذلك ثابت بالإجماع فإنه إنما يفهم من مذهب الإنسان في العادة ما اختص به كقولك هذا طريق زيد إذا اختص به أو هذه عادته إذا اختصت به ، وإذا اختلف في شيء من ذلك نسب إلى القائل به ، وما عدا هذه الخمسة لا يقال إنها مذهب يقلد فيه بل هو إما رواية أو شهادة أو غيرهما كما لو قال مالك أنا جائع أو عطشان فليس كل ما يقوله الإمام هو مذهب له بل تلك الخمسة خاصة ، ولو قال إمام زيد زنى لم نوجب الرجم بقوله بل نقول هذه شهادة هو فيها [ ص: 6 ] أسوة جميع العدول إن كمل النصاب بشروطه رجمناه ، وإلا فلا فكذلك قول مالك فتحت مصر عنوة أو مكة شهادة ، وإذا كانت شهادة فهو لم يباشر الفتح فيتعين أنه نقل هذه الشهادة عن غيره ، ولا يدري هل أذن له ذلك الغير في النقل عنه أم لا ، وإن سلمنا أنه أذن له فقد عارضت هذه البينة بينة أخرى .

وهي أن الليث وابن مسعود والشافعي وغيرهما قالوا الفتح وقع صلحا فهل يمكن أن يقال إن أحد البينتين أعدل فتقدم أو يقال هذا لا سبيل إليه ، والعلماء أجل من أن نفاوت نحن بين عدالتهم ، ولو سلمنا الهجوم عليهم في ذلك فالمذهب أنه لا يقضى بأعدل البينتين إلا في الأموال ، والعنوة والصلح ليسا من هذا الباب فلم قلتم إنه يقضى فيه بأعدل البينتين ، ولا يمكن أن يقال هذه الشهادة ليست نقلا عن أحد بل هي استقلال ، ومستندها السماع لأنا نمنع أن هذه المسألة مما تجوز فيه الشهادة بالسماع ، وقد عد الأصحاب مسائل السماع خمسة وعشرين مسألة ليست هذه منها ولو سلمنا أنها منها لكن حصل المعارض المانع من الحكم بهذه الشهادة ، وبهذا التقرير يظهر لك أن من أفتى بتحريم البيع والإجارة والشفعة في هذه البقاع بناء على قول مالك إنها فتحت عنوة خطأ ، وأن هذا ليس مذهبا لمالك بل هي شهادة لا يقلد فيها بل تجري مجرى الشهادات ، وكما يرد هذا السؤال على المالكية في العنوة يرد على الشافعية في قول الشافعي إنها فتحت صلحا ، ويبنون على ذلك الفتيا بالإباحة ، ويجعلون هذا مما يقلد فيه ، وإنما هو شهادة أيضا بالصلح ، وليت شعري لو أن حاكما شافعيا جاءه الشافعي فقال له إن فلانا صالح امرأته على ألف دينار نقدا ، وقد صارت خلعا منه هل يقضي بقوله وحده فيخرق الإجماع أو نقول هذه شهادة لا بد فيها من آخر مع الشافعي يشهد بالخلع فينبغي له أن يفعل هنا كذلك ، وقد بسطت هذه المسائل في كتاب الأحكام في الفرق [ ص: 7 ] بين الفتاوى والأحكام وتصرف القاضي والإمام .

وهو كتاب نفيس فيه أربعون مسألة من هذا النوع .

التالي السابق



الخدمات العلمية