الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق التاسع والثلاثون والمائتان بين قاعدة ما اعتبر من الغالب وبين ما ألغي من الغالب ) :

وقد يعتبر النادر معه ، وقد يلغيان معا اعلم أن الأصل اعتبار الغالب ، وتقديمه على النادر ، وهو شأن الشريعة كما يقدم الغالب في طهارة المياه وعقود المسلمين ، ويقصر في السفر ، ويفطر بناء على غالب الحال ، وهو المشقة ، ويمنع شهادة الأعداء والخصوم لأن الغالب منهم الحيف ، وهو كثير في الشريعة لا يحصى كثرة ، وقد يلغي الشرع الغالب رحمة بالعباد ، وتقديمه قسمان قسم يعتبر فيه النادر ، وقسم يلغيان فيه معا .

وأنا أذكر من كل قسم مثلا ليتهذب بها الفقيه ، ويتنبه إلى وقوعها في الشريعة فإنه لا يكاد يخطر ذلك بالبال ، ولا سيما تقديم النادر على الغالب

( القسم الأول ) ما ألغي فيه الغالب ، وقدم النادر عليه ، وأثبت حكمه دونه رحمة بالعباد ، وأنا أذكر منه عشرين مثالا :

( الأول ) غالب الولد أن يوضع لتسعة أشهر فإذا جاء بعد خمس سنين من امرأة طلقها زوجها دار بين أن يكون زنى وهو الغالب وبين أن يكون تأخر في بطن أمه وهو نادر بالنسبة إلى وقوع الزنا في الوجود ألغى الشارع الغالب ، وأثبت حكم النادر ، وهو تأخر الحمل رحمة بالعباد لحصول الستر عليهم ، وصون أعراضهم عن الهتك .

( الثاني ) إذا تزوجت فجاءت بولد لستة أشهر جاز أن يكون من وطء قبل العقد ، وهو الغالب أو من وطء بعده ، وهو النادر فإن غالب الأجنة لا توضع إلا لتسعة أشهر ، وإنما يوضع في الستة سقطا في الغالب ألغى الشرع حكم الغالب ، وأثبت حكم النادر ، وجعله من الوطء بعد العقد لطفا بالعباد لحصول الستر عليهم وصون أعراضهم .

( الثالث ) ندب الشرع النكاح لحصول الذرية مع أن الغالب على الأولاد الجهل بالله تعالى والإقدام على المعاصي ، وعلى رأي أكثر العلماء من لم يعرف الله تعالى بالبرهان فهو كافر ، ولم يخالف في هذا إلا أهل الظاهر كما حكاه الإمام في الشامل والإسفراييني ، ومقتضى هذا أن ينهى من الذرية لغلبة الفساد عليهم فألغى الشرع حكم الغالب ، واعتبر حكم النادر ترجيحا لقليل الإيمان على كثير الكفر [ ص: 105 ] والمعاصي تعظيما لحسنات الخلق على سيئاتهم رحمة بهم .

( الرابع ) طين المطر الواقع في الطرقات وممر الدواب والمشي بالأمدسة التي يجلس بها في المراحيض الغالب عليها وجود النجاسة من حيث الجملة ، وإن كنا لا نشاهد عينها ، والنادر سلامتها منها ، ومع ذلك ألغى الشارع حكم الغالب ، وأثبت حكم النادر توسعة ورحمة بالعباد فيصلي به من غير غسل .

( الخامس ) النعال الغالب عليها مصادفة النجاسات لا سيما نعل مشى بها سنة ، وجلس بها في مواضع قضاء الحاجة سنة ، ونحوها فالغالب النجاسة والنادر سلامتها من النجاسة ، ومع ذلك ألغى الشرع حكم الغالب ، وأثبت حكم النادر فجاءت السنة بالصلاة في النعال حتى قال بعضهم إن قلع النعال في الصلاة بدعة كل ذلك رحمة وتوسعة على العباد .

( السادس ) الغالب على ثياب الصبيان النجاسة لا سيما مع طول لبسهم لها ، والنادر سلامتها ، وقد جاءت السنة بصلاته عليه السلام بأمامة يحملها في الصلاة إلغاء لحكم الغالب وإثباتا لحكم النادر لطفا بالعباد .

( السابع ) ثياب الكفار التي ينسجونها بأيديهم مع عدم تحرزهم من النجاسات فالغالب نجاسة أيديهم لما يباشرونه عند قضاء حاجة الإنسان ، ومباشرتهم الخمور والخنازير ، ولحوم الميتات ، وجميع أوانيهم نجسة بملابسة ذلك ، ويباشرون النسج والعمل مع بلة أيديهم ، وعرقها حالة العمل ، ويبلون تلك الأمتعة بالنشا وغيره مما يقوي لهم الخيوط ويعينهم على النسج فالغالب نجاسة هذا القماش ، والنادر سلامته عن النجاسة ، وقد سئل عنه مالك فقال ما أدركت أحدا يتحرز من الصلاة في مثل هذا فأثبت الشارع حكم النادر ، وألغى حكم الغالب ، وجوز لبسه توسعة على العباد .

( الثامن ) ما يصنعه أهل الكتاب من الأطعمة في أوانيهم ، وبأيديهم الغالب نجاسته لما تقدم ، والنادر طهارته ، ومع ذلك أثبت الشرع حكم النادر ، وألغى حكم الغالب ، وجوز أكله توسعة على العباد .

( التاسع ) ما يصنعه المسلمون الذين لا يصلون ، ولا يستنجون بالماء ، ولا يتحرزون من النجاسات من الأطعمة الغالب نجاستها ، والنادر سلامتها فألغى الشارع حكم الغالب ، وأثبت حكم النادر ، وجوز أكلها توسعة ورحمة على العباد .

( العاشر ) ما ينسجه المسلمون المتقدم ذكرهم الغالب عليه النجاسة ، وقد أثبت الشرع حكم النادر ، وألغى حكم الغالب ، وجوز الصلاة فيه لطفا بالعباد

( الحادي عشر ) ما يصبغه أهل الكتاب الغالب نجاسته ، وهو أشد مما ينسجونه لكثرة [ ص: 106 ] الرطوبات الناقلة للنجاسة ، وألغى الشارع حكم الغالب ، وأثبت حكم النادر رفقا بالعباد فجوز الصلاة فيها .

( الثاني عشر ) ما يصنعه العوام من المسلمين الذين لا يصلون ، ولا يتحرزون من النجاسات الغالب نجاسته ، والنادر سلامته فجوز الشرع الصلاة فيه تغليبا لحكم النادر على الغالب توسعة ولطفا بالعباد

( الثالث عشر ) ما يلبسه الناس ، ويباع في الأسواق ، ولا يعلم لابسه كافر أو مسلم يحتاط ويتحرز مع أن الغالب على أهل البلاد العوام والفسقة وتراك الصلاة فيها ، ومن لا يتحرز من النجاسات فالغالب نجاسة هذا الملبوس ، والنادر سلامته فأثبت الشارع حكم النادر ، وألغى حكم الغالب لطفا بالعباد .

( الرابع عشر ) الحصر والبسط التي قد اسودت من طول ما قد لبست يمشي عليها الحفاة والصبيان ، ومن يصلي ، ومن لا يصلي الغالب مصادفتها للنجاسة ، والنادر سلامتها ، ومع ذلك قد جاءت السنة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى على حصير قد اسود من طول ما لبس بعد أن نضحه بماء ، والنضح لا يزيل النجاسة بل ينشرها فقدم الشرع حكم النادر على حكم الغالب .

( الخامس عشر ) الحفاة الغالب مصادفتهم النجاسة ، ولو في الطرقات ومواضع قضاء الحاجات ، والنادر سلامتهم ، ومع ذلك جوز الشرع صلاة الحافي كما جوز له الصلاة بنعله من غير غسل رجليه ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمشي حافيا ، ولا يعيب ذلك في صلاته لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنعله ، ومعلوم أن الحفاء أخف من تحمل النجاسة من النعال فقدم الشارع حكم النادر على الغالب توسعة على العباد

( السادس عشر ) دعوى الصالح الولي التقي على الفاجر الشقي الغاصب الظالم درهما الغالب صدقه ، والنادر كذبه ، ومع ذلك فقدم الشرع حكم النادر على الغالب ، وجعل الشرع القول قول الفاجر لطفا بالعباد بإسقاط الدعاوى عنهم ، واندراج الصالح مع غيره سدا لباب الفساد والظلم بالدعاوى الكاذبة .

( السابع عشر ) عقد الجزية لتوقع إسلام بعضهم ، وهو نادر ، والغالب استمرارهم على الكفر وموتهم عليه بعد الاستمرار فألغى الشارع حكم الغالب ، وأثبت حكم النادر رحمة بالعباد في عدم تعجيل القتل وحسم مادة الإيمان عنهم .

( الثامن عشر ) الاشتغال بالعلم مأمور به مع أن الغالب على الناس الرياء ، وعدم الإخلاص ، والنادر الإخلاص ، ومقتضى الغالب النهي عن الاشتغال بالعلم لأنه وسيلة للرياء ، ووسيلة المعصية معصية فلم يعتبره الشارع ، وأثبت حكم [ ص: 107 ] النادر

( التاسع عشر ) المتداعيان أحدهما كاذب قطعا ، والغالب أن أحدهما يعلم بكذبه ، والنادر أن يكون قد وقعت لكل واحد منهما شبهة ، وعلى التقدير الأول يكون تحليفه سعيا في وقوع اليمين الفاجرة المحرمة فيكون حراما غايته أنه يعارضه أخذ الحق ، وإلجاؤه إليه ، وذلك إما مباح أو واجب ، وإذا تعارض المحرم ، والواجب قدم المحرم ، ومع ذلك ألغى الشارع حكم الغالب ، وأثبت حكم النادر لطفا بالعباد على تخليص حقوقهم ، وكذلك القول في اللعان الغالب أن أحدهما كاذب يعلم كذبه ، ومع ذلك يشرع اللعان .

( العشرون ) غالب الموت في الشباب قال الغزالي في الإحياء ، ولذلك الشيوخ أقل يعني أنه لو كان الشبان يعيشون لصاروا شيوخا فتكثر الشيوخ فلما كان الشيوخ في الوجود أقل كان موت الإنسان شابا أكثر ، وحياته للشيخوخة نادرا ، ومع ذلك شرع صاحب الشرع التعمير في الغائبين إلى سبعين سنة إلغاء لحكم الغالب وإثباتا لحكم النادر لطفا بالعباد في إبقاء مصالحهم عليهم ، ونظائر هذا الباب كثيرة في الشريعة فينبغي أن تتأمل وتعلم فقد غفل عنها قوم في الطهارات فدخل عليهم الوسواس ، وهم يعتقدون أنهم على قاعدة شرعية ، وهي الحكم بالغالب فإن الغالب على الناس والأواني والكتب وغير ذلك مما يلابسونه النجاسة فيغسلون ثيابهم ، وأنفسهم من جميع ذلك بناء على الغالب ، وهو غالب كما قالوا ، ولكنه قدم النادر الموافق للأصل عليه ، وإن كان مرجوحا في النفس ، وظنه معدوم النسبة للظن الناشئ عن الغالب لكن لصاحب الشرع أن يضع في شرعه ما شاء ، ويستثني من قواعده ما شاء هو أعلم بمصالح عباده فينبغي لمن قصد إثبات حكم الغالب دون النادر أن ينظر هل ذلك الغالب مما ألغاه الشرع أم لا ، وحينئذ يعتمد عليه ، وأما مطلق الغالب كيف كان في جميع صوره فخلاف الإجماع .

( تنبيه ) ليس من باب تقديم النادر على الغالب حمل اللفظ على حقيقته دون مجازه ، وعلى العموم دون الخصوص فإنه يمكن أن يقال إنه منه لغلبة المجاز على كلام العرب حتى قال ابن جني كلام العرب كله مجاز ، وغلبة الخصوصات على العمومات حتى روي عن ابن عباس أنه قال ما من عام إلا ، وقد خص إلا قوله تعالى { والله بكل شيء عليم } وإذا غلب المجاز والتخصيص فينبغي إذا ظفرنا بلفظ ابتداء أن نحمله على مجازه تغليبا للغالب على النادر ، ولا نحمله على حقيقته لأنه النادر ، ونحمل العموم [ ص: 108 ] ابتداء على التخصيص لأنه الغالب ، ولا نحمله على العموم لأنه نادر فحيث عكسنا كان ذلك تغليبا للنادر على الغالب

( والجواب ) عنه أنه ليس من هذا الباب وسببه أن شرط الفرد المتردد بين النادر والغالب فيحمل على الغالب أن يكون من جنس الغالب ، وإلا فلا يحمل على الغالب بيانه بالمثال أن الشقة إذا جاءت من القصار جاز أن تكون طاهرة ، وهو الغالب أو نجسة ، وهو النادر أن يصيبها بول فأر أو غيره من الحيوان فإنا نحكم بطهارتها بناء على الغالب لأن حكمنا بطهارة الثياب المقصورة لأنها خرجت من القصارة ، وهذا الثوب المتردد بين النادر والغالب خرج من القصارة فكان من جنس الغالب الذي قضينا بطهارته فيلحق به أما لو كنا لا نقضي بطهارة الثياب المقصورة لكونها خرجت من القصارة بل لأنها تغسل بعد ذلك ، وهذا الثوب المتردد بين النادر والغالب لم يغسل فإنا هنا لا نقضي بطهارته لأجل عدم الغسل بعد القصارة الذي لأجله حكمنا بطهارته فهو حينئذ ليس من جنس الغالب الذي قضينا بطهارته لأن ذلك مغسول بعد القصارة ، وهذا الثوب غير مغسول كذلك في الألفاظ فإذا لم نقض على لفظ بأنه مجاز أو مخصوص بمجرد كونه لفظا بل لأجل اقترانه بالقرينة الصادرة عن الحقيقة إلى المجاز ، واقتران المخصص الصارف عن العموم للتخصيص ، وهذا اللفظ الوارد ابتداء الذي حملناه على حقيقته دون مجازه ، والعموم دون الخصوص ليس معه صارف من قرينة صارفة عن الحقيقة ، ولا مخصص صارف عن العموم فهو حينئذ ليس من جنس ذلك الغالب فلو حملناه على المجاز أو التخصيص لحملناه على غير غالب فإنه لم يوجد لفظ من حيث هو لفظ حمل على المجاز ، ولا على الخصوص ألبتة فضلا عن كونه غالبا بل هذا اللفظ قاعدة مستقلة بنفسها ليس فيها غالب ، ونادر بل شيء واحد ، وهو الحقيقة مطلقا ، والعموم مطلقا فتأمل ذلك فهو شرط خفي في حمل الشيء على غالبه دون نادره ، وهو أنه من شرطه أن يكون من جنسه كما تقدم تقريره بالمثال فظهر أن حمل اللفظ على حقيقته دون مجازه ابتداء ، والعموم دون الخصوص ليس من باب الحمل على النادر دون الغالب ، ولقد أوردت هذا السؤال على جمع كثير من الفضلاء قديما وحديثا فلم يحصل عنه جواب ، وهو سؤال حسن ، وجوابه حسن جدا .

( القسم الثاني ) ما ألغى الشارع [ ص: 109 ] الغالب والنادر معا فيه ، وأنا أذكر منه إن شاء الله عشرين مثالا

( الأول ) شهادة الصبيان في الأموال إذا كثر عددهم جدا الغالب صدقهم ، والنادر كذبهم ، ولم يعتبر الشرع صدقهم ، ولا قضى بكذبهم بل أهملهم رحمة بالعباد ، ورحمة بالمدعى عليه ، وأما في الجراح والقتل فقبلهم مالك وجماعة كما تقدم بيانه .

( الثاني ) شهادة الجمع الكثير من جماعة النسوان في أحكام الأبدان الغالب صدقهن ، والنادر كذبهن لا سيما مع العدالة ، وقد ألغى صاحب الشرع صدقهن فلم يحكم به ، ولا حكم بكذبهن لطفا بالمدعى عليه .

( الثالث ) الجمع الكثير من الكفار والرهبان والأحبار إذا شهدوا الغالب صدقهم ، والنادر كذبهم فألغى صاحب الشرع صدقهم لطفا بالمدعى عليه ، ولم يحكم بكذبهم .

( الرابع ) شهادة الجمع الكثير من الفسقة الغالب صدقهم ، ولم يحكم الشرع به لطفا بالمدعى عليه ، ولم يحكم بكذبهم

( الخامس ) شهادة ثلاثة عدول في الزنا الغالب صدقهم ، ولم يحكم الشرع به سترا على المدعى عليه ، ولم يحكم بكذبهم بل أقام الحد عليهم من حيث إنهم قذفوه لا من حيث إنهم شهود زور

( السادس ) شهادة العدل الواحد في أحكام الأبدان الغالب صدقه ، والنادر كذبه ، ولم يحكم الشرع بصدقه لطفا بالعباد ، ولطفا بالمدعى عليه ، ولم يكذبه .

( السابع ) حلف المدعي الطالب ، وهو من أهل الخير والصلاح الغالب صدقه ، والنادر كذبه ، ولم يقض الشارع بصدقه فيحكم له بيمينه بل لا بد من البينة ، ولم يحكم بكذبه لطفا بالمدعى عليه .

( الثامن ) رواية الجمع الكثير لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحبار والرهبان المتدينين المعتقدين لتحريم الكذب في دينهم الغالب صدقهم والنادر كذبهم ، ولم يعتبر الشرع صدقهم لطفا بالعباد وسدا لذريعة أن يدخل في دينهم ما ليس منه .

( التاسع ) رواية الجمع الكثير من الفسقة بشرب الخمر وقتل النفس ونهب الأموال ، وهم رؤساء عظماء في الوجود كالملوك والأمراء ونحوهم الغالب عند اجتماعهم على الرواية الواحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقهم فإن أتاهم وازع طبيعي يمنعهم الكذب ، وغيره لا تدينا ، ومع ذلك لا تقبل روايته صونا للعباد عن أن يدخل في دينهم ما ليس منه بل جعل الضابط العدالة ، ولم يحكم بكذب هؤلاء

( العاشر ) رواية الجمع الكثير من الجاهلين للحديث النبوي الغالب صدقهم ، والنادر كذبهم [ ص: 110 ] ولم يحكم الشرع بصدقهم ولا بكذبهم .

( الحادي عشر ) أخذ السراق المتهمين بالتهم وقرائن أحوالهم كما يفعله الأمراء اليوم دون الإقرار الصحيح والبينات المعتبرة الغالب مصادفته للصواب ، والنادر خطؤه ، ومع ذلك ألغاه الشرع صونا للأعراض والأطراف عن القطع

( الثاني عشر ) أخذ الحاكم بقرائن الأحوال من التظلم وكثرة الشكوى والبكاء مع كون الخصم مشهورا بالفساد والعناد الغالب مصادفته للحق ، والنادر خطؤه ، ومع ذلك منعه الشارع منه وحرمه ، ولا يضر الحاكم ضياع حق لا بينة عليه .

( الثالث عشر ) الغالب على من وجد بين فخذي امرأة ، وهو متحرك حركة الواطئ ، وطال الزمان في ذلك أنه قد أولج ، والنادر عدم ذلك فإذا شهد عليه بذلك ألغى الشارع هذا الغالب سترا على عباده ، ولم يحكم بوطئه ، ولا بعدمه

( الرابع عشر ) شهادة العدل المبرز لولده الغالب صدقه ، والنادر كذبه ، وقد ألغاه الشارع ، وألغى كذبه ، ولم يحكم بواحد منهما .

( الخامس عشر ) شهادة العدل المبرز لوالده الغالب صدقه ، ولم يحكم الشرع بصدقه ولا بكذبه بل ألغاهما جملة .

( السادس عشر ) شهادة العدل المبرز على خصمه الغالب صدقه ، وقد ألغى الشارع صدقه وكذبه .

( السابع عشر ) شهادة الحاكم على فعل نفسه إذا عزل ، وشهادة الإنسان لنفسه مطلقا إذا وقعت من العدل المبرز الغالب صدقه ، وقد ألغاه الشارع في صدقه وكذبه

( الثامن عشر ) حكم القاضي لنفسه ، وهو عدل مبرز من أهل التقوى والورع الغالب أنه إنما حكم بالحق ، والنادر خلافه ، وقد ألغى الشرع ذلك الحكم ببطلانه وصحته معا

( التاسع عشر ) القرء الواحد في العدد الغالب معه براءة الرحم ، والنادر شغله ، ولم يحكم الشارع بواحد منهما حتى ينضاف إليه قرءان آخران .

( العشرون ) من غاب عن امرأته سنين ثم طلقها أو مات عنها الغالب براءة رحمها ، والنادر شغله بالولد ، وقد ألغاهما صاحب الشرع معا ، وأوجب عليها استئناف العدة بعد الوفاء أو الطلاق لأن وقوع الحكم قبل سببه غير معتد به ، ونظائر في الشرع كثيرة من الغالب ألغاه صاحب الشرع ، ولم يعتبره ، وتارة بالغ في إلغائه فاعتبر نادره دونه كما تقدم بيانه فهذه أربعون مثالا قد سردتها في ذلك من أربعين جنسا فهي أربعون جنسا قد ألغيت ( فإن قلت ) أنت تعرضت للفرق بين ما ألغي منه ، وما لم يلغ ، ولم تذكره بل ذكرت [ ص: 111 ] أجناسا ألغيت خاصة فما الفرق ، وكيف الاعتماد في ذلك

( قلت ) الفرق في ذلك المقام لا يتيسر على المبتدئين ، ولا على ضعفة الفقهاء ، وكذلك ينبغي أن يعلم أن الأصل اعتبار الغالب ، وهذه الأجناس التي ذكرت استثناؤها على خلاف الأصل ، وإذا وقع لك غالب ، ولا تدري هل هو من قبيل ما ألغي أو من قبيل ما اعتبر فالطريق في ذلك أن تستقري موارد النصوص ، والفتاوى استقراء حسنا مع أنك تكون حينئذ واسع الحفظ جيد الفهم فإذا لم يتحقق لك إلغاؤه فاعتقد أنه معتبر ، وهذا الفرق لا يحصل إلا لمتسع في الفقهيات والموارد الشرعية ، وإنما أوردت هذه الأجناس حتى تعتقد أن الغالب وقع معتبرا شرعا ، ونجزم أيضا بشيئين

( أحدهما ) أن قول القائل إذا دار الشيء بين النادر والغالب فإنه يلحق بالغالب

( ثانيهما ) قول الفقهاء إذا اجتمع الأصل ، والغالب فهل يغلب الأصل على الغالب أو الغالب على الأصل قولان فقد ظهر لك أجناس كثيرة اتفق الناس فيها على تقديم الأقل ، وألغاه الغالب في القسم الأول الذي اعتبرنا رده فلا تكون تلك الدعوى على عمومها ، وقد أجمع الناس أيضا على تقديم الغالب على الأول في أمر البينة فإن الغالب صدقها ، والأصل براءة الذمة ، ومع ذلك تقدم البينة إجماعا فهو أيضا تخصيص لعموم تلك الدعوى فهذا هو المقصود من بيان هذا الفرق والتنبيه على هذه المواطن .

التالي السابق



الخدمات العلمية