، وإلا لتناقض ، فالاستثناء المستغرق باطل ، ويبقى أصل الكلام على حاله ، حكوا فيه الإجماع ، وفي هذا الإطلاق والنقل نزاع في المذاهب . أما المالكية فقد رأيت في كتاب [ ص: 385 ] المدخل " الشرط الثاني عدم الاستغراق لابن طلحة من المالكية حكاية قولين عندهم في : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، وقد حكاه القرافي أيضا عنه ، ونقل اللخمي من المالكية عن بعضهم في أنت طالق واحدة إلا واحدة لا يلزمه طلاق ، لأن الندم منتف بإمكان الرجعة ، بخلاف أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، لظهور الندم .
وأما الحنفية فقيدوا البطلان بما إذا كان الاستثناء بعين ذلك اللفظ ، نحو : نسائي طوالق إلا نسائي . أو أوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي ، فإن كان بغيره صح ، وإن كان مستغرقا في الواقع نحو : نسائي طوالق إلا هؤلاء ، وأشار إليهن ، وأوصيت له بثلث مالي ، إلا ألف درهم ، وهو ثلث ماله . كذا ذكره صاحب " الهداية " في الباب الأول من الزيادات ، ووجهوه بأن الاستثناء تصرف لفظي مبني على صحة اللفظ لا على صحة الحكم ، ألا ترى أنه لو ، تقع طلقتان ، ويصح الاستثناء ، وإن كانت العشرة لا صحة لها من حيث الحكم ، ومع هذا لا يجعل كأنه قال : أنت طالق ثلاثا ، ويلغى ما بعده من الاستثناء ، لما ذكرنا أن صحة الاستثناء تتبع صحة اللفظ دون الحكم . وتحقيقه أن الاستثناء متى وقع بغير اللفظ الأول فهو يصلح لإخراج [ ص: 386 ] ما تناوله صدر الكلام ، وإنما امتنع لعدم ملكه ، لا لأمر يرجع إلى ذات اللفظ ، ومتصور أن يدخل في ملكه أكثر من هذه النسوة بخلاف ما إذا وقع الاستثناء بعين ذلك اللفظ ، فإنه لا يصلح لإخراج بعض ما تناوله ، فلم يصح اللفظ ، فلم يصح الاستثناء قال أنت طالق عشر طلقات إلا ثماني طلقات
وأما عندنا أي الشافعية فهذا ما لم يعقبه باستثناء آخر ، فلو عقبه باستثناء آخر ، نحو : له علي عشرة إلا عشرة ، إلا ثلاثة ، فقيل : يلزمه عشرة ، لأن الاستثناء الأول لم يصح ، فلا يجوز الاستثناء منه ، وقيل : يلزمه ثلاثة ، وقيل : سبعة ، والأول لا يصح ، وسقط من البين . وأما إذا كان زائدا على المستثنى منه ، فالمنع منه أولى . وعن الفراء جوازه في المنقطع ، نحو : له علي ألف إلا ألفين ، لأنه مستثنى من المفهوم
وفي كتب الحنفية إنما لا يصح استثناء الكل من الكل لفظا كما لو ، أما حالا وحكما فيصح كقوله : قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، فيصح الاستثناء ولا تطلق واحدة منهن ، ولو نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة ، وليس له امرأة سواهن صح الاستثناء ، وتقع واحدة ثم إما أن يستثنى الأقل أو الأكثر أو المساوي : قال : أنت طالق أربعا إلا ثلاثة
أما استثناء القليل من الكثير فجائز ، وحكى بعضهم فيه الإجماع ، وقال المازري في " شرح البرهان " إن كان ليس بواحد فلا خلاف في جوازه ، نحو : له علي عشرة إلا حبة ، أو إلا سدسا . وإن كان جزءا صحيحا كالواحد ، والثلث فالمشهور جوازه . ومنهم من استهجنه ، وقال : الأحسن في الخطاب أن يقول : له عندي تسعة ، ولا يقول عشرة ، إلا واحدا .
وقال في " شرح التلقين " عن قوم : إنهم شذوا ، فقالوا : لا يجوز إلا [ ص: 387 ] لضرورة إليه ، كاستثناء الكسور ، كقوله : له عندي مائة درهم إلا ربع درهم ، أو إلا نصف درهم ، وقالوا : قولك : مائة درهم إلا عشرة ، يعني له عندي تسعون ، فنقض عليهم بقوله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } وفي هذا استثناء الأقل من الأكثر من غير أن يكون كسرا في العدد ، فأجابوا بأنه في معنى الكسر ، لأن التجزئة المقترحة من النصف إلى العشر ، وهذا كالكسر لأن الخمسين من الألف كنصف العشر ، فصار في معنى استثناء الكسر وهذا مردود عند العلماء ، وتكلف فيه لا حاجة إليه .
وأما استثناء الأكثر ففيه قولان للنحاة :
أحدهما : يمتنع ، وعليه ، وقال : ولم ترد به اللغة ، ولأن الشيء إذا نقص يسيرا لم يزل عنه اسم ذلك الشيء ، فلو استثنى أكثر لزال الاسم . الزجاج
وقال : لو قال : له عندي مائة إلا سبعة وتسعين ، ما كان متكلما بالعربية ، وكان عبثا من القول . ابن جني
وقال في كتاب " المسائل " : لا يجري في اللغة ، لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير أغفلته أو نسيته لقلته ، ثم تداركته بالاستثناء ، ولأن الشيء قد ينقص نقصانا يسيرا ، فلا يزول عنه اسم الشيء ، وأما مع الكثرة فيزول . ابن قتيبة
وقال : إنه مذهب الشيخ أبو حامد البصريين من النحاة ، وأجازه أكثر أهل الكوفة منهم ، وأجازه أكثر الأصوليين ، نحو : له عندي عشرة إلا تسعة . فيلزمه درهم . وهو قول ، السيرافي وأبي عبيد من النحاة محتجين بقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من [ ص: 388 ] الغاوين } والمتبعون له هم الأكثر ، بدليل : { وقليل من عبادي الشكور } .
وأجيب بوجهين :
أحدهما : أن الاستثناء منقطع ، والعباد المضافين إلى الله تعالى هم المؤمنون ، لأن الإضافة لتشريف المضاف ، لكنه يدخل الغاوون تحت المستثنى منه لولا الاستثناء .
والثاني : أنه متصل ، وقوله : { إلا من اتبعك من الغاوين } أقل من المستثنى منه . لأن قوله يتناول الملك ، والإنس والجن ، وكل الغاوين أقل من الملائكة . وفي الحديث : { الملائكة يطوفون بالمحشر سبعة أدوار } وذلك أعظم من في المحشر . وقال : القاطع في هذه المسألة أن الله تعالى استثنى الغاوين من المخلصين في هذه الآية ، واستثنى المخلصين من الغاوين في قوله حكاية عن إبليس : { الشيخ أبو إسحاق لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } ، فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه ، لزم أن يكون كل واحد من الغاوين والمخلصين أقل من الآخر . وفيه نظر لأن الضمير في قوله : " منهم " عائد لبني آدم ، والمخلص منهم قليل ، وانفصل بعضهم عنه ، فقال : " المخلصون " هنا هم الأنبياء ، والملائكة وسكان السموات ، وهم أكثر من الغاوين فيكون من باب استثناء الأقل من الأكثر . [ ص: 389 ] وذكر المازري وجها آخر : وهو أنه إذا لم يعلم السامع الأقل من الأكثر جاز ذلك ، وإنما يقبح إذا استثنى ما يعلم السامع أنه أكثر مما أبقاه . ونقل ابن السمعاني عن بعض أهل اللغة منع استثناء الأكثر ، ثم قال : واختاره الأشعرية ، وهو قول ، ونقله أحمد بن حنبل المازري في " شرح التلقين " عن ، قال : وذكر أنه ناظر في ذلك ابن درستويه ، وذكر في " شرح البرهان " أن أبا علي بن أبي هريرة فيه قولين ، وكذا قال للشافعي عبد الوهاب في " الإفادة " ، وهو غريب .
ومن شبه المجوزين القياس على المخصص ، فإنه يجوز وإن كان ما خصص أكثر مما بقي في العموم ، فكذلك الاستثناء ، وهذا إنما يصح الاحتجاج به إذا قلنا إن اللغة تثبت قياسا ، فإن منعناه لم يتم ، وكثيرا ما يتحد المعنى ، وتختلف أحكام إعرابه عند العرب ، فلا يبعد أن يكون عندهم يحسن إخراج أكثر العموم بغير حرف الاستثناء ، ويصح به ، ثم المانعون للأكثر اختلفوا في حد القليل الذي يستثنى ، فقال ابن مغيث من المالكية : هو الثلث فما دونه ، هذا مذهب وأصحابه . مالك
وأما المساوي ، فمن جوز الأكثر فهو هنا أجوز ، ومن منعه اختلفوا على قولين . وطرد فألحقه بأكثر في المنع ، والجمهور على الجواز ، واحتج على استثناء النصف بقوله تعالى : { ابن درستويه قم الليل إلا قليلا نصفه } فالضمير في ( نصفه ) عائد على الليل قطعا ، ( ونصفه ) بدل ، فإما من الليل بعد الاستثناء ، فيكون إلا قليلا نصفا ، وإما من قليل . فتبين أنه إنما أراد بالليل نصف الليل ، وربما تمسك به القائلون بالأكثر من جهة قوله : ( أو زد عليه ) .
وأجيب بأن نصفه مفعول بفعل مضمر ، أي : قم نصفه ، لا بدل ، [ ص: 390 ] لأن النصف لا يقال فيه : قليل : ورد بأنه يلزم على هذا أن يكون أمره أولا بقيام الليل إلا قليلا ، فيكون أمرا بقيام الأكثر ، فقوله بعده : نصفه مخالف له ، فيلزم أن يكون ناسخا ، وليس كذلك ، لأنه متصل ، وشرط الناسخ أن يكون متراخيا . وقال ابن عصفور : بل ضمير ( نصفه ) يعود على القليل ، وهو بدل منه ، بدل البعض من الكل ، وجاز وإن كان القليل مبهما ، لأنه قد تعين بالعادة ، أي ما يسمى قليلا في العادة
ونقل الإمام في المحصول منع استثناء الأكثر . قال : وله في المساوي وجهان ، ونقل المازري والباجي عن القاضي قولين في أكثر . ونقل القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق والمازري ، والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح الأكثر والمساوي . وشرطوا أن ينقص عن النصف ، وحكاه الآمدي في " شرح الجزولية " عن البصريين .
والذي في " التقريب " للقاضي : يمتنع استثناء الأكثر في الأشبه عندنا ، وإن كنا قد نصرنا في غير هذا الموضع جوازه ، ولهذا قال المازري : آخر قولي القاضي المنع ، ولم يتعرض القاضي للمساوي : وقال إلكيا الطبري : كان القاضي أولا يجوز استثناء الأكثر ، ثم رجع عنه آخرا في " التقريب والإرشاد " وقال : لا يجوز ذلك ، وهو مخالف لإجماع الفقهاء ، فإنهم قالوا : لو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين صح ، والذي في كتب الحنابلة تخصيص ذلك بالعقود ، قالوا : ولا خلاف في جوازه إذا كانت الكثرة من دليل خارج لا من اللفظ ، وعلى هذا فلا يحسن الاحتجاج [ ص: 391 ] عليهم بالآية السابقة ، لأنه ليس فيها عدد محصور ، وفرقوا بورود اللغة في هذا دون ذلك ، ولأن حمل الجنس على العموم إنما هو من طريق الاحتمال لا من جهة القطع على جميع الجنس ، بخلاف الأعداد فإن جميعها منطوق بها فصار صريحا .
قد صرحوا بحكاية هذا مذهبا آخر ، وهو التفصيل بين أن يكون العدد صريحا ، فلا يجوز استثناء الأكثر نحو : عشرة إلا تسعة ، وبين غيره فيجوز نحو : خذ الدراهم إلا ما في الكيس الفلاني ، وكان ما في الكيس أكثر من الباقي .
وحكى في كتاب " النكت " له قولا رابعا عن بعض النحويين من أهل عصره ، وهو التفصيل بين أن يكون المستثنى جملة فيمتنع ، نحو جاء إخوتك العشرة إلا تسعة ، وبين أن يكون مفصلا ومعددا فيجوز ، نحو : إلا زيدا وبكرا وخالدا إلى أن يأتي إلى التسعة . ويخرج من كلام ابن الفارض المعتزلي المازري السابق خامس ، وهو التفصيل بين أن يعلم السامع الأكثر من الأقل فيمتنع ، وإلا جاز .
ويخرج أيضا من كلام الحنابلة قول آخر هو جوازه في المنقطع دون المتصل ، فحصل ستة مذاهب ، ثم يضاف إليها القول الآتي : أنه يصح ولكن لم ترد به اللغة .
وقال : القليل الذي يجوز استثناؤه الثلث فما دونه . وهاهنا فوائد : ابن قتيبة
إحداها : أشار المازري إلى أن الخلاف لفظي ، وأن بعضهم اعتذر عن المانع في الأكثر بأنه لم يخالف في الحكم ، وإنما خالف في استعمال العرب في ذلك ، فرأى أنها لم تستعمل استثناء الأكثر من الأقل ، وما تمسك به الخصوم قابل للتأويل ، فلا يثبت به حكم لغة العرب ، لكن العرب وإن [ ص: 392 ] لم تستعمله فلا يسقط حكم الاستثناء في الإقرار وغيره . وبذلك صرح إلكيا الهراسي : فقال : يصح ذلك ، ولكن لم يقع في اللغة ، وكذا قال ابن الخشاب من أئمة النحاة : أجاز قوم استثناء أكثر الجملة ، ومنع آخرون فلم يجيزوا أن يستثنى إلا ما كان دون النصف منها ، ولهذا القول يشهد قياس العربية ، وبه جاء السماع ، وقد وقع الاتفاق عليه ، والأول ليس بمستحيل في المعقول ، ولكن الآخر يمنعه ، ومن ادعى فيه سماعا أو استنبط منه فقد أخطأ ، وادعى ما لا أصل له .
الثانية : قال ابن فارس في كتاب " فقه العربية " : الصحيح في العبارة أن يقال : يستثنى القليل من الكثير ، ويستثنى الكثير مما هو أكثر منه ، فأما قول من قال يستثنى الكثير من القليل ، فليس بجيد ، فيقال : عشرة إلا خمسة حتى يبلغ تسعة .
الثالثة : أن الكلام في الاستثناء من العدد مبني على صحته ، وللنحاة فيه مذاهب :
أحدها : وهو المشهور الجواز ، وعليه بنى الفقهاء مذاهبهم في الأقارير وغيرها .
والثاني : المنع واختاره ابن عصفور محتجا بأنها نصوص ، فالإخراج منها يخرجها عن النصية ، ألا ترى أنك إذا قلت : ثلاثة به إلا واحدا كنت قد أوقعت الثلاثة على الاثنين وذلك لا يجوز ، بخلاف قولك : جاء القوم إلا عشرة . وأجاب عن قوله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين } بأن الألف لما كان يستعمل للتكثير . كقولك : اقعد ألف سنة ، تريد بها زمنا طويلا ، دخل الاحتمال فجاز أن يبين بالاستثناء أنه لم يستعمل للتكثير ، قال أبو حيان : وهذا هو الصحيح [ ص: 393 ]
والثالث : أنه يمنع استثناء العقد نحو : قصد عشرون إلا عشرة ، ويجوز استثناء ما دونه نحو عشرة إلا ثلاثة .