أثبته الأخذ بأقل ما قيل الشافعي والقاضي . قال : وحكى بعض الأصوليين إجماع أهل النظر عليه . وحقيقته - كما قال القاضي عبد الوهاب ابن السمعاني - : أن يختلف المختلفون في مقدر بالاجتهاد على أقاويل ، فيؤخذ بأقلها عند إعواز الحكم ، أي إذا لم يدل على الزيادة دليل . وقال : هو أن يرد الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم مبينا لمجمل ويحتاج إلى تحديده ، فيصار إلى أقل ما يؤخذ ، كما قاله القفال الشاشي في الشافعي بأنه دينار ، لأن الدليل قام أنه لا بد من توقيت ، فصار إلى أقل ما حكى [ ص: 27 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من الجزية . ( قال ) : وهذا أصل في التوقيت قد صار إليه أقل الجزية في مسائل كثيرة ، كتحديد مسافة القصر بمرحلتين ، الشافعي بقلتين ، وأن وما لا ينجس من الماء بالملاقاة ثلث دية المسلم . دية اليهودي
وقال ابن القطان في كتابه : هو أن يختلف الصحابة في تقدير ، فيذهب بعضهم إلى مائة مثلا ، وبعضهم إلى خمسين . فإن كانت دلالة تعضد أحد القولين صير إليها ، وإن لم تكن دلالة فقد اختلف فيه أصحابنا : فمنهم من قال : نأخذ بأقل ما قيل من حيث كان أقل ، ويقول : إن هذا مذهب ، لأنه قال : إن دية اليهودي الثلث ، وحكى اختلاف الصحابة فيه ، وأن بعضهم قال بالنصف ، وبعضهم بالمساواة ، وبعضهم بالثلث ، فكان هذا أقلها . ومثله ما ذهب إليه في الدية أنها أخماس ، وروي أنها أرباع ، فكانت رواية الأخماس أولى ، لأنها أقل ما روي ، فنصير إليه . ومنهم من احتج على القول بأقل ما قيل من كلام الشافعي فيما لو الشافعي ، أنه لا يحكم إلا بما اتفقا عليه . ومنهم من قال : هذا قول حسن إذا كان عليه دلالة ، فإن لم يكن معه دلالة فلا معنى له ، لأنه ليس لأحد أن يقول بغير حجة إلا وللآخر أن يقول بما هو أقل منه أو أكثر بغير حجة ، وذلك أن القائلين أجمعوا على هذا المقدار ، واختلفوا فيما سواه فأخذ بما أجمعوا عليه وترك ما اختلفوا فيه . يلزمه أن يقف في الزيادة ولا يقطع على أنه لا شيء فيه ، لجواز أن يكون فيه دلالة . وأما ما قالوه في دية اليهودي ، فإن سرق رجل متاعا لرجل ، فشهد شاهد بألف دينار ، وآخر بألف وخمسمائة - رحمه الله تعالى - سلك فيه غير هذا الطريق ، وهو أنه قال : قد دل على أن لا مساواة بقوله : { الشافعي أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } فإذا بطلت المساواة فليس للناس إلا قولان ، فإذا بطل [ ص: 28 ] أحدهما صح الآخر . وأما جعله الدية أخماسا فبدليل ، [ لا ] لأنه أقل ما قيل . وأما مسألة الشهادة فإنما حكم فيها بالأقل ، لأنه ثبت ذلك بشاهدين ، وانفراد الآخر ليس بحجة ، وهذا لا خلاف فيه .
( قال ) : وقد منع قوم من أهل النظر وقالوا : إن أصلكم هذا ينتقض بالجمعة ، فإن الناس اختلفوا هل تنعقد بأربعين أو باثنين أو بثلاثة ، فوجب أن يؤخذ بأقل ما قيل . فإن قلتم : الأصل هو الظهر ولا ينتقل عنه إلا بدليل ، قيل لكم : وكذلك الأصل شغل ذمته بالجناية فلا تبرأ إلا بدليل . قالوا : وكذلك يجب أن نأخذ بأقل ما قيل . ثم أجاب الغسل من ولوغ الكلب ابن القطان : بأن الكلام في هذه المسألة ليس في الحادثة التي قام الدليل فيها ، وإنما كان هنا في ، فنصير إلى أقل ما قيل ، وهذا هو موضع الخلاف بين أصحابنا المخرج على وجهين . فأما مسألة الجمعة فدليلنا الخبر . ولو صح السؤال علينا لانقلب الحادثة إذا وقعت بين أصول مجتهد فيها بحادثة على لأبي ثور ، لأنه يجيزها بواحد . أبي حنيفة
وأما ولوغ الكلب فقد صرنا إلى ما نص عليه - رضي الله عنه - قال : وهذه المسألة مبنية على حادثة قد تقدمت قبلنا وانقرض العصر عليها واختلفوا فيها ، وأما اليوم فالمدار على الدليل . انتهى . وأجاب القفال عن مسألة الجمعة بأنها أقل ما قيل ، لأنه أقل ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع فيهم في زمنه ذلك . وقسم ابن السمعاني المسألة إلى قسمين يخرج منهما الجواب : أحدهما : أن يكون ذلك فيما أصله براءة الذمة ، فإن كان الاختلاف في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى ، لموافقة براءة الذمة ، ما لم يقم دليل الوجوب ، وإن [ كان ] الاختلاف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه ، كدية الذمة إذا وجبت على قاتله ، فهل يكون الأخذ بأقله دليلا ؟ اختلف أصحاب فيه على وجهين [ ص: 29 ] والثاني : أن يكون فيما هو ثابت في الذمة ، كالجمعة الثابت فرضها ، اختلف العلماء في عدد انعقادها ، فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها فلا تبرأ الذمة بالشك ، الشافعي فيه وجهان : أحدهما : يكون دليلا ولا ينتقل عنه إلا بدليل ، لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعا ، وبالأقل خلافا ، فلذلك جعلها وهل يكون الأخذ بالأكثر دليلا ؟ تنعقد بأربعين ، لأن هذا العدد أكثر ما قيل . الثاني : لا يكون دليلا ، لأنه لا ينعقد من الخلاف دليل في حكم ، الشافعي إنما اعتبر الأربعين بدليل آخر . والشافعي
قال ابن السمعاني : وهذا كله كلام بعض أصحابنا ، وليس فيه كبير معنى ، انتهى . وإنما : أحدها : أن لا يكون أحد قال بعدم وجوب الشيء . وإلا لم يكن الثلث دية الذمي - مثلا - أقل الواجب . بل لا يكون هناك شيء هو الأقل . ثانيها : أن لا يكون أحد قال بوجوب شيء من ذلك النوع ، كما لو قيل : إنه يجب هاهنا فرس ، فإن هذا القائل لا يكون موافقا على وجوب الثلث وإن نقص ذلك عن قيمة الفرس ، والقائل بالثلث لا يقول بالفرس وإن نقصت قيمتها عن ثلث الدية ، فلا يكون هناك شيء هو أقل . ثالثها : أن لا يوجد دليل أخذ غير الأقل ، وإلا كان ثبوته بذلك الدليل ، لا بهذا الطريق . يتم الأخذ بأقل ما قيل بشروط
رابعها : أن لا يوجد دليل يدل على ما هو زائد وإلا وجب العمل به وكان مبطلا لحكم هذا الأصل . ولهذا لم يقل بانعقاد الجمعة بثلاثة ، ولا بالغسل من ولوغ الكلب ثلاثا ، وإن كان أقل ما قيل ، لقيام الدليل على اشتراط ما صار إليه ، وقال بعض الفضلاء : الأخذ بأقل ما قيل عبارة عن الأخذ بالمحقق وطرح المشكوك فيه فيما أصله البراءة ، والأخذ بما يخرج عن العهدة بيقين . الشافعي
[ ص: 30 ] فيما أصله اشتغال الذمة . ولذلك جعل الأخذ بأكثر في الضرب الثاني - وهو ما أصله اشتغال الذمة بمنزلة الأخذ بالأقل في الأول . وقد وهم بعضهم فأورد عدد الجمعة سؤالا ، ولم يعلم أن الأخذ فيه بالأكثر بمنزلة الأخذ بالأقل ، وبيانه أن المركب من أجزاء على قسمين : أحدهما : أن يكون بعضها مرتبطا ببعض فلا يعتد به إلا مع صاحبه ، كصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار . وثانيهما : أن لا يرتبط ، كمن وجب عليه لزيد عشرون درهما يؤديها كل يوم درهما . ونظير الثاني : دية اليهودي ، فإن أبعاض [ الدية ] من حيث هي لا تعلق لبعضها ببعض ، فمن وجب عليه مائة من الإبل وجب كل واحد منها من غير تعلق له بصاحبها ، فإذا خرج ثلثها برئ قطعا ، وبقي ما وراءه ، والأصل عدمه ، فلم يوجد . ونظير الأول : الجمعة فإن أبعاض عددها يتعلق ببعض ، فمن صلاها في ثلاثة لم يخرج عن العهدة بيقين ولم يأت بما أسقط عنه شيئا ، فأخذنا بالأصل في الموضعين ، وهما في الحقيقة شيء واحد ، وحاصله إيجاب الاحتياط فيما أصله الوجوب دون غيره . والفروع في الموضعين لا تخفى . وبهذا يتبين أن الأخذ بأقل ما قيل مركب من الإجماع ومن البراءة الأصلية ، فلا يتجه من القائل المخالفة فيه ، ولا يصح التمسك فيه بالإجماع وحده كما قال القاضي والغزالي وتبعه . قال ابن الحاجب القاضي : ونقل بعض الفقهاء عن أنه تمسك بالإجماع ، وهو خطأ عليه ، ولعل الناقل زل في كلامه . وقال الشافعي الغزالي : هو سوء ظن به ، فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر ، ولا مخالفة فيه ، والمختلف فيه سقوط الزيادة ، والإجماع عليه .
نعم المشكل جعله دليلا مستقلا مع تركيبه من دليلين ، فكيف يتجه ممن يوافق على الدليلين المذكورين مخالفة فيه . وأما الشافعي في الأحكام " فأنكر الأخذ بأقل ما قيل ، وقال : إنما يصح إذا أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام ، ولا سبيل إليه . وحكى [ ص: 31 ] قولا أنه يأخذ بأكثر ما قيل ليخرج عن عهد التكليف بيقين . قال : وليس الثلث في دية اليهودي بأقل ما قيل ، فقد روينا من طريق ابن حزم ، عن يونس بن عبيد ، أن دية اليهودي والنصراني ثمانمائة درهم ، وهو أقل من ثلث دية المسلم ، فكان ينبغي أن تقولوا به ، لأنه أقل ما قيل . وعن بعض المتقدمين أنه لا دية للكتابي أصلا ، فليس ثلث الدية أقل ما قيل . قال : ولنا فيه تفصيل . وقال الحسن البصري : يمكن أن يقال : إن الواجب الوسط من ذلك . وأوضح مثال لهذه المسألة قيمة المتلف ، بأن القاضي عبد الوهاب ، فيقومها . بعضهم بمائة ، وبعضهم بمائتين ، وكذلك إذا جرحه جراحة ليس فيها أرش مقدر . . يجني على سلعة يختلف أهل الخبرة في تقويمها