[ ص: 207 ] فصل :
[
nindex.php?page=treesubj&link=28268جواب من قال بالمسألة السريجية ]
قال السريجيون : لقد ارتقيتم مرتقى صعبا ، وأسأتم الظن بمن قال بهذه المسألة وهم أئمة علماء لا يشق غبارهم ، ولا تغمز قناتهم ، كيف وقد أخذوها من نص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى ، وبنوها على أصوله ، ونظروا لها النظائر ، وأتوا لها بالشواهد ؟ فنص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي على أنه إذا قال : " أنت طالق قبل موتي بشهر " ثم مات لأكثر من شهر بعد هذا التعليق ; وقع الطلاق قبل موته بشهر وهذا إيقاع طلاق في زمن ماض سابق لوجود الشرط وهو موته ، فإذا وجد الشرط تبينا وقوع الطلاق قبله ، وإيضاح ذلك بإخراج الكلام مخرج الشرط ، كقوله : " إن مت - أو إذا مت - فأنت طالق قبل موتي بشهر " ونحن نلزمكم بهذه المسألة على هذا الأصل ، فإنكم موافقون عليه ، وكذا قوله قبل دخوله : " أنت طالق طلقة قبلها طلقة " فإنه يقع بها طلقتان ، وإحداهما وقعت في زمن ماض سابق على التطليق ، وبهذا خرج الجواب عن قوله : " إن الوقوع كما لم يسبق الإيقاع فلا يسبق الطلاق التطليق فكذا لا يسبق شرطه فإن الحكم لا يتقدم عليه ، ويجوز تقدمه على شرطه وأحد سببيه أو أسبابه " فإن الشرط معرف ، محض ولا يمتنع تقديم المعرف عليه ، وأما تقديمه على أحد سببيه فكتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين ، وتقديم الزكاة على الحول بعد ملك النصاب ، وتقديم الكفارة على الجرح قبل الزهوق ، ونظائره .
وأما قولكم : " إن
nindex.php?page=treesubj&link=21205الشرط يجب تقديمه على المشروط " فممنوع بل مقتضى الشرع توقف المشروط على وجوده ، وأنه لا يوجد بدونه ، وليس مقتضاه تأخر المشروط عنه ، وهذا يتعلق باللغة والعقل والشرع ، ولا سبيل لكم إلى نص عن أهل اللغة في ذلك ولا إلى دليل شرعي ولا عقلي ، فدعواه غير مسموعة ، ونحن لا ننكر أن من الشروط ما يتقدم مشروطه ، ولكن دعوى أن ذلك حقيقة الشرط وأنه إن لم يتقدم خرج عن أن يكون شرطا دعوى لا دليل عليها ، وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثله في الأحكام الشرعية ; لأن الشروط في كلامهم تتعلق بالأفعال كقوله : " إن زرتني أكرمتك " " وإذا طلعت الشمس جئتك " فيقتضي الشرط ارتباطا بين الأول والثاني : فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم ، وأما الأحكام فتقبل التقدم والتأخر والانتقال ، كما لو قال : " إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر " ومعلوم أنه لو قال مثل هذا في الحسيات كان محالا ، فلو قال : " إذا زرتني أكرمتك قبل أن تزورني بشهر " كان محالا ، إلا أن يحمل كلامه على معنى صحيح ، وهو إذا أردت أو عزمت على زيارتي أكرمتك قبلها .
[ ص: 208 ] وسر المسألة أن نقل الحقائق عن مواضعها ممتنع ، والأحكام قابلة للنقل والتحويل والتقديم والتأخير ، ولهذا لو قال : " أعتق عبدك عني " ففعل ; وقع العتق عن القائل ، وجعل الملك متقدما على العتق حكما ، وإن لم يتقدم عليه حقيقة .
وقولكم : " يلزمنا
nindex.php?page=treesubj&link=11761_21205تجويز تقديم الطلاق على التطليق " فذلك غير لازم ; فإنه إنما يقع بإيقاعه ; فلا يسبق إيقاعه ، بخلاف الشرط ، فإنه لا يوجب وجود المشروط ، وإنما يرتبط به ، والارتباط أعم من السابق والمقارن والمتأخر ، والأعم لا يستلزم الأخص .
ونكتة الفرق أن الإيقاع موجب للوقوع ; فلا يجوز أن يسبقه أثره وموجبه ، والشرط علامة على المشروط ; فيجوز أن يكون قبله وبعده ، فوزان الشرط وزان الدليل ، ووزان الإيقاع وزان العلة ، فافترقا .
وأما قولكم : " إن هذا التعليق يتضمن المحال إلى آخره " فجوابه أن هذا التعليق تضمن شرطا ومشروطا ، وقد تعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع ، وقد تعقد للإبطال ; فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء ، بل تعليق ممتنع بممتنع ، فتصدق الشرطية وإن انتفى كل من جزأيها ، كما تقول : " لو كان مع الله إله آخر لفسد العالم " وكما في قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116إن كنت قلته فقد علمته } ومعلوم أنه لم يقله ولم يعلمه الله ، وهكذا قوله : " إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا " فقضية عقدت لامتناع وقوع طرفيها ، وهما المنجز والمعلق .
ثم نذكر في ذلك قياسا [ آخر ] حرره الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=11815أبو إسحاق رحمه الله تعالى ، فقال : طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر ; فوجب أن ينفي السابق منهما المتأخر .
نظيره أن
nindex.php?page=treesubj&link=27330يقول لامرأته : إن قدم زيد فأنت طالق ثلاثا ، وإن قدم عمرو فأنت طالق طلقة ، فقدم زيد بكرة ، وعمرو عشية
ونكتة المسألة أنا لو أوقعنا الطلاق المباشر لزمنا أن نوقع قبله ثلاثا ، ولو أوقعنا قبله ثلاثا لامتنع وقوعه في نفسه ; فقد أدى الحكم بوقوعه إلى الحكم بعدم وقوعه ، فلا يقع .
وقولكم : " إن هذه
nindex.php?page=treesubj&link=28268اليمين تفضي إلى سد باب الطلاق ، وذلك تغيير لشرع الله ; فإن الله ملك الزوج الطلاق رحمة به - إلى آخره " جوابه أن هذا ليس فيه تغيير للشرع ، وإنما هو إتيان بالسبب الذي ضيق به على نفسه ما وسعه الله عليه ، وهو هذه اليمين ، وهذا ليس تغييرا للشرع .
ألا ترى أن الله تعالى وسع عليه أمر الطلاق فجعله واحدة بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم ، فإذا ضيق على نفسه وأوقعها بفم واحد حصر نفسه وضيق عليها ومنعها ما كان حلالا لها ، وربما لم يبق له سبيل إلى عودها إليه ، ولذلك جعل الله تعالى الطلاق إلى
[ ص: 209 ] الرجال ، ولم يجعل للنساء فيه حظا ; لنقصان عقولهن وأديانهن ، فلو جعله إليهن لكان فيه فساد كبير تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده ، فكانت المرأة لا تشاء أن تستبدل بالزوج إلا استبدلت به ، بخلاف الرجال ; فإنهم أكمل عقولا وأثبت ، فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عيل صبره ، ثم إن الزوج قد يجعل طلاق امرأته بيدها ، بأن يملكها ذلك أو يحلف عليها أن لا تفعل كذا ، فتختار طلاقه متى شاءت ، ويبقى الطلاق بيدها ، وليس في هذا تغيير للشرع ; لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه ، ونظير هذا ما قاله فقهاء
الكوفة قديما وحديثا : أنه لو قال : "
nindex.php?page=treesubj&link=11764كل امرأة أتزوجها فهي طالق " لم يمكنه أن يتزوج بعد ذلك امرأة ، حتى قيل : إن أهل
الكوفة أطبقوا على هذا القول ، ولم يكن في ذلك تغيير للشريعة ; فإنه هو الذي ضيق على نفسه ما وسع الله عليه ، ونظير هذا لو قال : " كل عبد وأمة أملكهما فهما حران " لم يكن له سبيل بعد هذا إلى ملك رقيق أصلا ، وليس في هذا تغيير للشرع ، بل هو المضيق على نفسه ، والضيق والحرج الذي يدخله المكلف على نفسه لا يلزم أن يكون الشارع قد شرعه له ، وإن ألزمه به بعد أن ألزم نفسه ، ألا ترى أن من
nindex.php?page=treesubj&link=28268كان معه ألف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت العشرة بينهما لم يبق له طريق إلى الاستبدال بها ، وعليه ضرر في إعتاقها أو تزويجها أو إمساكها ولا بد له من أحدها .
ثم نقول في معارضة ما ذكرتم : بل يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح ، بأن يكون محبا لزوجته شديد الإلف بها ، وهو مشفق من أن ينزغ الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة أو موجدة ، أو يحلف يمينا بالطلاق أو يبلى بمن يستحلفه بالطلاق ويضطر إلى الحنث ، أو يبلى بظالم يكرهه على الطلاق ويرفعه إلى حاكم ينفذه ، أو يبلى بشاهدي زور يشهدان عليه بالطلاق ، وفي ذلك ضرر عظيم به ، وكان من محاسن الشريعة أن يجعل له طريقا إلى الأمن من ذلك كله ، ولا طريق أحسن من هذه ; فلا ينكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن تأتي بمثل ذلك ، ونحن لا ننكر أن في ذلك نوع ضرر عليه ، لكن رأي احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء ، وما ينكر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما ؟ .
[ ص: 207 ] فَصْلٌ :
[
nindex.php?page=treesubj&link=28268جَوَابُ مَنْ قَالَ بِالْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ ]
قَالَ السُّرَيْجِيُّونَ : لَقَدْ ارْتَقَيْتُمْ مُرْتَقًى صَعْبًا ، وَأَسَأْتُمْ الظَّنَّ بِمَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُمْ أَئِمَّةٌ عُلَمَاءُ لَا يُشَقُّ غُبَارُهُمْ ، وَلَا تُغْمَزُ قَنَاتُهُمْ ، كَيْفَ وَقَدْ أَخَذُوهَا مِنْ نَصِّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبَنَوْهَا عَلَى أُصُولِهِ ، وَنَظَّرُوا لَهَا النَّظَائِرَ ، وَأَتَوْا لَهَا بِالشَّوَاهِدِ ؟ فَنَصَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : " أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " ثُمَّ مَاتَ لِأَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيقِ ; وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ وَهَذَا إيقَاعُ طَلَاقٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَابِقٍ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ مَوْتُهُ ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَهُ ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ بِإِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّرْطِ ، كَقَوْلِهِ : " إنْ مِتَّ - أَوْ إذَا مِتَّ - فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَنَحْنُ نُلْزِمُكُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، فَإِنَّكُمْ مُوَافِقُونَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ قَبْلَ دُخُولِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَهَا طَلْقَةً " فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهَا طَلْقَتَانِ ، وَإِحْدَاهُمَا وَقَعَتْ فِي زَمَنٍ مَاضٍ سَابِقٍ عَلَى التَّطْلِيقِ ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : " إنَّ الْوُقُوعَ كَمَا لَمْ يَسْبِقْ الْإِيقَاعَ فَلَا يَسْبِقُ الطَّلَاقُ التَّطْلِيقَ فَكَذَا لَا يَسْبِقُ شَرْطَهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَى شَرْطِهِ وَأَحَدِ سَبَبَيْهِ أَوْ أَسْبَابِهِ " فَإِنَّ الشَّرْطَ مُعَرَّفٌ ، مَحْضٌ وَلَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ الْمُعَرَّفِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ فَكَتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ بَعْدَ الْيَمِينِ ، وَتَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ ، وَتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْجُرْحِ قَبْلَ الزُّهُوقِ ، وَنَظَائِرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21205الشَّرْطَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَشْرُوطِ " فَمَمْنُوعٌ بَلْ مُقْتَضَى الشَّرْعِ تَوَقُّفُ الْمَشْرُوطِ عَلَى وُجُودِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ ، وَلَيْسَ مُقْتَضَاهُ تَأَخُّرُ الْمَشْرُوطِ عَنْهُ ، وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ، وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى نَصٍّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ وَلَا إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَلَا عَقْلِيٍّ ، فَدَعْوَاهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَتَقَدَّمُ مَشْرُوطُهُ ، وَلَكِنَّ دَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ، وَحَتَّى لَوْ جَاءَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ; لِأَنَّ الشُّرُوطَ فِي كَلَامِهِمْ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ كَقَوْلِهِ : " إنْ زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ " " وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ جِئْتُكَ " فَيَقْتَضِي الشَّرْطُ ارْتِبَاطًا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي : فَلَا يَتَقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرُ وَلَا يَتَأَخَّرُ الْمُتَقَدِّمُ ، وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَتَقْبَلُ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ وَالِانْتِقَالَ ، كَمَا لَوْ قَالَ : " إذَا مِتَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ مِثْلَ هَذَا فِي الْحِسِّيَّاتِ كَانَ مُحَالًا ، فَلَوْ قَالَ : " إذَا زُرْتنِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَ أَنَّ تَزُورَنِي بِشَهْرٍ " كَانَ مُحَالًا ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنًى صَحِيحٍ ، وَهُوَ إذَا أَرَدْتَ أَوْ عَزَمْتَ عَلَى زِيَارَتِي أَكْرَمْتُكَ قَبْلَهَا .
[ ص: 208 ] وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نَقْلَ الْحَقَائِقِ عَنْ مَوَاضِعِهَا مُمْتَنِعٌ ، وَالْأَحْكَامُ قَابِلَةٌ لِلنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : " أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي " فَفَعَلَ ; وَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْقَائِلِ ، وَجُعِلَ الْمِلْكُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِتْقِ حُكْمًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً .
وَقَوْلُكُمْ : " يَلْزَمُنَا
nindex.php?page=treesubj&link=11761_21205تَجْوِيزُ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ عَلَى التَّطْلِيقِ " فَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ ; فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ بِإِيقَاعِهِ ; فَلَا يَسْبِقُ إيقَاعَهُ ، بِخِلَافِ الشَّرْطِ ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ ، وَإِنَّمَا يَرْتَبِطُ بِهِ ، وَالِارْتِبَاطُ أَعَمُّ مِنْ السَّابِقِ وَالْمُقَارِنِ وَالْمُتَأَخِّرِ ، وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ .
وَنُكْتَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مُوجِبٌ لِلْوُقُوعِ ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَهُ أَثَرُهُ وَمُوجِبُهُ ، وَالشَّرْطُ عَلَامَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ ; فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ ، فَوِزَانُ الشَّرْطِ وِزَانُ الدَّلِيلِ ، وَوِزَانُ الْإِيقَاعِ وِزَانُ الْعِلَّةِ ، فَافْتَرَقَا .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : " إنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ يَتَضَمَّنُ الْمُحَالَ إلَى آخِرِهِ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ تَضَمَّنَ شَرْطًا وَمَشْرُوطًا ، وَقَدْ تُعْقَدُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ فِي ذَلِكَ لِلْوُقُوعِ ، وَقَدْ تُعْقَدُ لِلْإِبْطَالِ ; فَلَا يُوجَدُ فِيهَا الشَّرْطُ وَلَا الْجَزَاءُ ، بَلْ تَعْلِيقٌ مُمْتَنِعٌ بِمُمْتَنِعٍ ، فَتَصْدُقُ الشَّرْطِيَّةُ وَإِنْ انْتَفَى كُلٌّ مِنْ جُزْأَيْهَا ، كَمَا تَقُولُ : " لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ آخَرُ لَفَسَدَ الْعَالَمُ " وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=116إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ وَلَمْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ : " إنْ وَقَعَ عَلَيْكِ طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا " فَقَضِيَّةٌ عُقِدَتْ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ طَرَفَيْهَا ، وَهُمَا الْمُنَجَّزُ وَالْمُعَلَّقُ .
ثُمَّ نَذْكُرُ فِي ذَلِكَ قِيَاسًا [ آخَرَ ] حَرَّرَهُ الشَّيْخُ
nindex.php?page=showalam&ids=11815أَبُو إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَالَ : طَلَاقَانِ مُتَعَارِضَانِ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ; فَوَجَبَ أَنْ يَنْفِيَ السَّابِقُ مِنْهُمَا الْمُتَأَخِّرَ .
نَظِيرُهُ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=27330يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَإِنْ قَدِمَ عَمْرٌو فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً ، فَقَدِمَ زَيْدٌ بُكْرَةً ، وَعَمْرٌو عَشِيَّةً
وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّا لَوْ أَوْقَعْنَا الطَّلَاقَ الْمُبَاشِرَ لَزِمَنَا أَنْ نُوقِعَ قَبْلَهُ ثَلَاثًا ، وَلَوْ أَوْقَعْنَا قَبْلَهُ ثَلَاثًا لَامْتَنَعَ وُقُوعُهُ فِي نَفْسِهِ ; فَقَدْ أَدَّى الْحُكْمُ بِوُقُوعِهِ إلَى الْحُكْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ ، فَلَا يَقَعُ .
وَقَوْلُكُمْ : " إنَّ هَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=28268الْيَمِينَ تُفْضِي إلَى سَدِّ بَابِ الطَّلَاقِ ، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَرْعِ اللَّهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ مَلَّكَ الزَّوْجَ الطَّلَاقَ رَحْمَةً بِهِ - إلَى آخِرِهِ " جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا هُوَ إتْيَانٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي ضَيَّقَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ هَذِهِ الْيَمِينُ ، وَهَذَا لَيْسَ تَغْيِيرًا لِلشَّرْعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَسَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الطَّلَاقِ فَجَعَلَهُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِئَلَّا يَنْدَمَ ، فَإِذَا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْقَعَهَا بِفَمٍ وَاحِدٍ حَصَرَ نَفْسَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَمَنَعَهَا مَا كَانَ حَلَالًا لَهَا ، وَرُبَّمَا لَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى عَوْدِهَا إلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ إلَى
[ ص: 209 ] الرِّجَالِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلنِّسَاءِ فِيهِ حَظًّا ; لِنُقْصَانِ عُقُولِهِنَّ وَأَدْيَانِهِنَّ ، فَلَوْ جَعَلَهُ إلَيْهِنَّ لَكَانَ فِيهِ فَسَادٌ كَبِيرٌ تَأْبَاهُ حِكْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَرَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ ، فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَشَاءُ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِالزَّوْجِ إلَّا اسْتَبْدَلَتْ بِهِ ، بِخِلَافِ الرِّجَالِ ; فَإِنَّهُمْ أَكْمَلُ عُقُولًا وَأَثْبَتُ ، فَلَا يَسْتَبْدِلُ بِالزَّوْجَةِ إلَّا إذَا عِيلَ صَبْرُهُ ، ثُمَّ إنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَجْعَلُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا ، بِأَنْ يُمَلِّكَهَا ذَلِكَ أَوْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَفْعَلَ كَذَا ، فَتَخْتَارَ طَلَاقَهُ مَتَى شَاءَتْ ، وَيَبْقَى الطَّلَاقُ بِيَدِهَا ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ هَذَا الْحَرَجَ بِيَمِينِهِ وَتَمْلِيكِهِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ فُقَهَاءُ
الْكُوفَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : أَنَّهُ لَوْ قَالَ : "
nindex.php?page=treesubj&link=11764كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ " لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ امْرَأَةً ، حَتَّى قِيلَ : إنَّ أَهْلَ
الْكُوفَةِ أَطْبَقُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرِيعَةِ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَنَظِيرُ هَذَا لَوْ قَالَ : " كُلُّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ أَمْلِكُهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ " لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ بَعْدَ هَذَا إلَى مِلْكِ رَقِيقٍ أَصْلًا ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ ، بَلْ هُوَ الْمُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالضِّيقُ وَالْحَرَجُ الَّذِي يُدْخِلُهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ شَرَّعَهُ لَهُ ، وَإِنْ أَلْزَمَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28268كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَأَوْلَدَهَا ثُمَّ سَاءَتْ الْعِشْرَةُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْقَ لَهُ طَرِيقٌ إلَى الِاسْتِبْدَالِ بِهَا ، وَعَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي إعْتَاقِهَا أَوْ تَزْوِيجِهَا أَوْ إمْسَاكِهَا وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهَا .
ثُمَّ نَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ مَا ذَكَرْتُمْ : بَلْ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَغَرَضٌ صَحِيحٌ ، بِأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِزَوْجَتِهِ شَدِيدَ الْإِلْفِ بِهَا ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ أَنْ يَنْزِغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا فَيَقَعَ مِنْهُ طَلَاقُهَا مِنْ غَضْبَةٍ أَوْ مَوْجِدَةٍ ، أَوْ يَحْلِفُ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ أَوْ يُبْلَى بِمَنْ يَسْتَحْلِفُهُ بِالطَّلَاقِ وَيُضْطَرُّ إلَى الْحِنْثِ ، أَوْ يُبْلَى بِظَالِمٍ يُكْرِهُهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَيَرْفَعُهُ إلَى حَاكِمٍ يُنَفِّذُهُ ، أَوْ يُبْلَى بِشَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِهِ ، وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلَا طَرِيقَ أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ ; فَلَا يُنْكَرُ مِنْ مَحَاسِنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ نَوْعَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ ، لَكِنَّ رَأْيَ احْتِمَالِهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْفِرَاقِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْبَقَاءِ ، وَمَا يُنْكَرُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ دَفْعِ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا ؟ .