الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ثم شرع في السجدة الثالثة فقال ( وسجدة الشكر لا تدخل الصلاة ) ; لأن سببها غير متعلق بها فلو سجدها فيها عامدا عالما بالتحريم بطلت صلاته ( و ) إنما ( تسن لهجوم نعمة ) له أو لنحو ولده أو لعموم المسلمين ظاهرة من حيث لا يحتسب كولد أو جاه أو مال أو نصر على عدو أو قدوم غائب أو شفاء مريض بشرط كون ذلك حلالا فيما يظهر ، ومن حدوث المال حصول وظيفة دينية : أي وهو أهل لها أخذا مما مر ، وهل الهجوم مغن عن القيدين بعده أو لا ؟ الأوجه الثاني ، ولا ينافيه تمثيلهم بالولد كما سيأتي إيضاحه ( أو اندفاع نقمة ) عنه أو عمن ذكر ظاهرة من حيث لا يحتسب كنجاة من غرق أو حريق لما صح { أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يسر به خر ساجدا } ورواه في دفع النقمة ابن حبان ، ولما روي أنه قال { سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فسجدت شكرا لربي وهكذا ثلاث مرات } ولما جاءه كتاب علي من اليمن بإسلام همدان سجد لله تعالى ، ولما أخبره جبريل أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرا سجد أيضا ، وخرج بالظاهرتين المذكور عن الشافعي والأصحاب ، وجزم به جمع ، وإن قال الإسنوي الظاهر خلافه ، واغتر به الجوجري المعرفة وستر المساوي على ما قاله الشيخ ، ونظر فيه بأن السجود لحدوث المعرفة واندفاع المساوي [ ص: 103 ] أولى من السجود لكثير من النعم ، واستدل على ما ذكره بسجوده صلى الله عليه وسلم لإخبار جبريل ، ويمكن منع الاستدلال على مدعاه بأن أخبار جبريل خرجت عن موضوع المعرفة إلى نعمة حدثت عامة للمسلمين ، هذا والأولى أن يحترز به عما لا وقع له عادة كحدوث درهم وعدم رؤية عدو لا ضرر فيها ولهذا قال الإمام : اشترط في النعمة أن يكون لها بال : أي وقع وخطر ، وخرج بقولنا من حيث لا يحتسب : أي من حيث لا يدري تبعا لما في الروضة وإن نازع فيه الإسنوي واغتر به ابن المقري فحذفه من روضه ، وتبعه على المنازعة الجوجري ما لو تسبب فيهما تسببا تقضي العادة بحصولهما عقبه ونسبتهما له ، فلا سجود حينئذ كربح متعارف لتاجر يحصل عادة عقب أسبابه .

                                                                                                                            وعلم مما تقرر عدم اعتبار تسببه في حصول الولد بالوطء والعافية بالدواء ; لأن ذلك لا ينسب في العادة إلى فعله ويعد فيها نعمة ظاهرة ، وخرج بالحدوث استمرار النعم واندفاع النقم كالعافية والإسلام والغنى عن الناس فلا سجود لها ; لأنه يؤدي إلى استغراق العمر في السجود ، ويستحب إظهار السجود لذلك إلا إنتجددت له ثروة أو جاه أو ولد مثلا بحضرة من ليس له ذلك وعلم بالحال فيخيفه لئلا ينكسر قلبه ، ولو ضم صدقة أو صلاة لسجوده فهو أولى ، فالذي فهمه المصنف من كلام البغوي الذاكر لسنية التصدق أو الصلاة شكرا أنه يسن فعل ذلك مع السجود ، والذي فهمه الخوارزمي تلميذ البغوي من كلامه أنه يقوم مقامه ، والأول أوجه .

                                                                                                                            ( أو رؤية مبتلى ) في نحو عقله أو بدنه ; لأنه صلى الله عليه وسلم سجد مرة لرؤية زمن ، وأخرى لرؤية رجل به قصر بالغ وضعف حركة ونقص خلق أو بلاء واختلاط عقل على الخلاف في ذلك ، والحديث وإن كان مرسلا فقد اعتضد بشواهد أكدته ، والسجود هنا على السلامة من ذلك ( أو ) رؤية ( عاص ) متجاهر بمعصيته كما في الكفاية عن الأصحاب [ ص: 104 ] وإن نازع فيه الزركشي ، ومنه الكافر كما في البحر ، إذ مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا فطلب منه السجود شكرا على السلامة من ذلك ; لأنه صلى الله عليه وسلم سجد لرؤية المبتلى والأوجه كما قاله جمع أنه لو حضر المبتلى والعاصي عند أعمى أو سمع صوتهما سامع ولم يرهما سن له السجود أيضا فالشرط إما الرؤية ولو من بعد ، والتعبير بها جرى على الغالب أو حضورهما عند الأعمى أو سماع صوتهما له أو لغيره ، ولا يلزم تكرر السجود إلى ما لا غاية له فيمن هو ساكن بإزائه مثلا ; لأنا لا نأمره به كذلك إلا إذا لم يوجد أهم منه يقدم عليه ( ويظهرها ) أي السجدة ( للعاصي ) بقيده المار .

                                                                                                                            ولا يشترط في معصيته التي يتجاهر بها كونها كبيرة كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى إن لم يخف منه ضررا تعبيرا له لعله يتوب ، بخلاف من لم يتجاهر بمعصيته فلا يسجد لرؤيته أو خاف منه ضررا فلا يظهرها بل يخفيها كما في المجموع ( لا للمبتلى ) لئلا يتأذى بالإظهار . نعم إن كان غير معذور كمقطوع في سرقة أو مجلود في زنا ، ولم يعلم توبته أظهرها له وإلا فيسرها .

                                                                                                                            وقضيته أن الفاسق لا يسجد لرؤية فاسق لكن الأوجه أنه إن قصد به زجره سجد مطلقا أو الشكر على السلامة مما ابتلي به لم يسجد إن كان مثله من كل وجه أو فسق الرائي أقبح ويجري هذا فيما لو شاركه في ذلك البلاء والعصيان وهل يظهرها للفاسق المتجاهر المبتلى في بدنه بما هو معذور فيه يحتمل الإظهار ; لأنه أحق بالزجر والإخفاء لئلا يفهم أنه على الابتلاء فينكسر قلبه ، ويحتمل أنه يظهرها ويبين له السبب وهو الفسق ، وهذا هو الأوجه وبه أفتى الوالد رحمه الله تعالى . ويحرم التقرب إلى الله تعالى بسجدة من غير سبب ولو بعد الصلاة كما يحرم بركوع مفرد ونحوه ( وهي ) أي سجدة الشكر ( كسجدة التلاوة ) خارج الصلاة في كيفيتها وشرائطها كما في المحرر ومندوباتها ( والأصح جوازهما ) أي السجدتين خارج الصلاة ( على الراحلة للمسافر ) بالإيماء ; لأنهما نفل فسومح فيهما لمشقة النزول ، وإن أذهب الإيماء أظهر أركانها من تمكين الجبهة بخلاف الجنازة .

                                                                                                                            ومقابل الأصح عدم الجواز لفوات أعظم أركانهما وهو إلصاق الجبهة من موضع السجود ، فإن كان في مرقد ، وأتم سجوده جاز بلا خلاف . والماشي يسجد على الأرض ( فإن سجد لتلاوة صلاة جاز ) الإيماء ( عليها ) أي الراحلة ( قطعا ) تبعا للنافلة كسجود السهو ، وخرج بسجود التلاوة سجدة الشكر فلا تفعل في الصلاة كما مر ، وتفوت سجدة الشكر بطول الفصل عرفا بينها وبين سببها كما مر نظيره في سجدة التلاوة .

                                                                                                                            التالي السابق



                                                                                                                            الخدمات العلمية