" رسائل وتعليقات "
كتبها عبد القاهر الجرجاني
[ ص: 480 ]
[ ص: 481 ]
إزالة الشبهة في جعل الفصاحة والبلاغة للألفاظ
- 1 -
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان مهم في مسألة " اللفظ " و " المعنى "
561- اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن، وجب أن يتوخى دائبا فيهم ما يتوخاه الطبيب في الناقه، من تعهده بما يزيد في منته ويبقيه على صحته، ويؤمنه النكس في علته .
وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون، وإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي . فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات وأداهم إلى التعلق بالمحالات، وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساسا وبنوا على قاعدة فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث . وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع [ ص: 482 ] تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى من حيث أن ذلك زعموا يؤدي إلى التناقض وأن يكون معناهما متغايرا وغير متغاير معا .
ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ مثل قولهم : لفظ متمكن غير قلق ولا ناب به موضعه " . إلى سائر ما ذكرناه قبل، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف . ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصة التي حدثت فيه ويعنون الذي عناه حيث قال : وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني والمعاني مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربي والعجمي والحضري، والبدوي، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير . الجاحظ
وما يعنونه إذا قالوا : إنه يأخذ الحديث فيشنفه ويقرطه ويأخذ المعنى خرزة فيرده جوهرة وعباءة فيجعله ديباجة، ويأخذه عاطلا فيرده حاليا " . وليس كون هذا مرادهم بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء ويشتبه هذا الاشتباه . ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله وتولى الأمر غير البصير به أعضل الداء واشتد البلاء .
ولو لم يكن من الدليل على أنهم لم ينحلوا اللفظ الفضيلة وهم يريدونه نفسه وعلى الحقيقة إلا واحد، وهو وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنه [ ص: 483 ] حلي له لكان فيه الكفاية . وذاك أن الألفاظ أدلة على المعاني وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه ، فأما أن يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها فما لا يقوم في عقل ولا يتصور في وهم .
ومما إذا تفكر فيه العاقل أطال التعجب من أمر الناس ومن شدة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا " الأخذ " و " السرقة " : " إن من أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده كان أحق به " . وهو كلام مشهور متداول يقرؤه الصبيان في أول كتاب " عبد الرحمن " . ثم لا ترى أحدا من هؤلاء الذين لهجوا بجعل الفضيلة في اللفظ يفكر في ذلك فيقول : من أين يتصور أن يكون هاهنا معنى عار من لفظ يدل عليه؟ ثم من أين يعقل أن يجيء الواحد منا لمعنى من المعاني بلفظ من عنده، إن كان المراد باللفظ نطق اللسان؟
ثم هب أنه يصح له أن يفعل ذلك، فمن أين يجب إذا وضع لفظا على معنى، أن يصير أحق به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا يصنع بالمعنى شيئا ولا يحدث فيه صفة ولا يكسبه فضيلة؟ وإذا كان كذلك فهل يكون [ ص: 484 ] لكلامهم هذا وجه سوى أن يكون " اللفظ " في قولهم : " فكستاه لفظا من عنده " عبارة عن صورة يحدثها الشاعر أو غير الشاعر للمعنى؟
فإن قالوا : بلى يكون، وهو أن يستعير للمعنى لفظا.
قيل : الشأن في أنهم قالوا : " إذا أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده، كان أحق به " ، والاستعارة عندكم مقصورة على مجرد اللفظ، ولا ترون المستعير يصنع بالمعنى شيئا وترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه . وإذا كان كذلك فمن أين - ليت شعري - يكون أحق به؟ فاعرفه .
أمثلة على ما تفعله صنعة الشاعر في الصورة، والمعنى واحد
563 - ثم إن أردت مثالا في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع في بيت أبو تمام أبي نخيلة . وذلك أن أبا نخيلة قال في : مسلمة بن عبد الملك
أمسلم إني يا ابن كل خليفة ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرض
شكرتك إن الشكر حبل من التقى
وما كل من أوليته صالحا يقضي
وأنبهت لي ذكري وما كان خاملا
ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فعمد إلى هذا البيت الأخير فقال : أبو تمام
لقد زدت أوضاحي امتدادا ولم أكن بهيما ولا أرضي من الأرض مجهلا
ولكن أياد صادفتني جسامها أغر فأوفت بي أغر محجلا
[ ص: 485 ]
وفي كتاب " الشعر والشعراء " للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن، قال : ومن الأمثال القديمة قولهم : " حرا أخاف على جاني كمأة لا قرا " يضرب مثلا للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره مما لم يخفه فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال :
وحذرت من أمر فمر بجانبي لم ينكني ولقيت ما لم أحذر
وقال لبيد :
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
قال : وأخذه فأحسن وطغى اقتدارا على العبارة واتساعا في المعنى فقال : البحتري
لو أنني أوفي التجارب حقها فيما أرت لرجوت ما أخشاه
[ ص: 486 ]
وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب أيضا .
أنشد لإبراهيم بن المهدي :
يا من لقلب صيغ من صخرة في جسد من لؤلؤ رطب
جرحت خديه بلحظي فما برحت حتى اقتص من قلبي
ثم قال : قال علي بن هارون : أخذه أحمد بن أبي فنن معنى ولفظا فقال :
أدميت باللحظات وجنته فاقتص ناظره من القلب
قال : ولكنه بنقاء عبارته وحسن مأخذه قد صار أولى به .
566- ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ، ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدث في المعنى وشيئا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنه على كل حال لم يقل في إنه " أحسن فطغى اقتدارا على العبارة " من أجل حروف البحتري
لو أنني أوفي التجارب حقها
وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء العبارة من أجل حروف :
أدميت باللحظات وجنته
567- واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبر عنه واحدا، والعبارة اثنتين، ثم كانت إحدى العبارتين أفصح من الأخرى وأحسن، [ ص: 487 ] فإنه ينبغي أن يكون السبب في كونها أفصح وأحسن، اللفظ نفسه وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين ، فلما رأوا أنه إذا قيل في " الكلمتين " إن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن للمعنى في إحداهما حال لا يكون له في الأخرى- ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل . ولقد غلطوا فأفحشوا، لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثل صورته في الآخر البتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها، ولا يعرض لنظمه وتأليفه كمثل أن يقول في بيت حطيئة :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها واجلس فإنك أنت الآكل اللابس
وما كان هذا سبيله، كان بمعزل من أن يكون به اعتداد وأن يدخل في قبيل ما يفاضل فيه بين عبارتين بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى . ذلك لأنه لا يكون بذلك صانعا شيئا يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام، ومستأنف عبارة وقائل شعر . ذاك لأن بيت حطيئة لم يكن كلاما وشعرا من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه، مجردة معراة من معاني النظم والتأليف، بل منها متوخى فيها ما ترى من كون المكارم " مفعولا " ل " دع " وكون قوله : " لا ترحل لبغيتها " جملة أكدت [ ص: 488 ] الجملة قبلها وكون " اقعد " معطوفا بالواو على مجموع ما مضى، وكون جملة " أنت الطاعم الكاسي " معطوفة بالفاء على " اقعد " . فالذي يجيء فلا يغير شيئا من هذا الذي به كان كلاما وشعرا، لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية، بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئا البتة .
568- وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتما أو سوارا أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما، ولكن بما يحدث فيهما من الصورة .
كذلك لا تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلاما وشعرا من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النحو وأحكامه .
فإذن ليس لمن يتصدى لما ذكرنا من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منها لفظة في معناها، إلا أن يسترك عقله ويستخف، ويعد معزلا الذي حكي أنه قال : " إني قلت بيتا هو أشعر من بيت . قال حسان : حسان
يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل
وقلت :
يغشون حتى ما تهر كلابهم أبدا ولا يسلون من ذا المقبل
فقيل : هو بيت ولكنك قد أفسدته . حسان