شائع حذف الموصوف بالعدد
453- وأما حذف الموصوف بالعدد فكذلك شائع . وذلك أنه كما يسوغ أن تقول : " عندي ثلاثة " وأنت تريد " ثلاثة أثواب " . ثم تحذف لعلمك أن السامع يعلم ما تريد ، كذلك يسوغ أن تقول : " عندي ثلاثة " وأنت تريد : " أثواب ثلاثة " . لأنه لا فصل بين أن تجعل المقصود بالعدد مميزا وبين أن تجعله موصوفا بالعدد في أنه يحسن حذفه إذا علم المراد .
يبين ذلك أنك ترى المقصود بالعدد قد ترك ذكره ثم لا تستطيع أن تقدره إلا موصوفا، وذلك في قولك : " عندي اثنان " و " عندي واحد " يكون المحذوف هاهنا موصوفا لا محالة نحو : " عندي رجلان اثنان " و " عندي درهم واحد " . ولا يكون مميزا البتة، من حيث كانوا قد رفضوا إضافة " الواحد " و " الاثنين " إلى الجنس، فتركوا أن يقولوا : " واحد رجال " و " اثنا رجال " على حد " ثلاثة رجال " . ولذلك كان قول الشاعر :
ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل
شاذا .
[ ص: 381 ]
هذا ولا يمتنع أن يجعل المحذوف من الآية في موضع التمييز دون موضع الموصوف، فيجعل التقدير : " ولا تقولوا ثلاثة آلهة " ثم يكون الحكم في الخبر على ما مضى ويكون المعنى - والله أعلم - " ولا تقولوا لنا ثلاثة آلهة أو في الوجود ثلاثة آلهة "
454- فإن قلت : “ فلم صار لا يلزم على هذا التقدير ما لزم على قول من قدر : " ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة " ؟
فذاك لأنا إذا جعلنا التقدير : " ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة، أو ثلاثة آلهة " كنا قد نفينا الوجود عن الآلهة، كما نفيناه في ( لا إله إلا الله ) و « وما من إله إلا الله » [ سورة آل عمران : 62 ] .
وإذا زعموا أن التقدير " ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة " كانوا قد نفوا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة، ولم ينفوا وجود الآلهة .
فإن قيل : فإنه يلزم على تقديرك الفساد من وجه آخر، وذاك أنه يجوز إذا قلت : " ليس لنا أمراء ثلاثة " أن يكون المعنى: ليس لنا أمراء ثلاثة، ولكن لنا أميران اثنان . وإذا كان كذلك: كان تقديرك وتقديرهم جميعا خطأ .
[ ص: 382 ]
قيل : إن هاهنا أمرا قد أغفلته وهو أن قولهم " آلهتنا " : يوجب ثبوت آلهة جل الله وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
وقولنا : " ليس لنا آلهة ثلاثة " لا يوجب ثبوت اثنين البتة .
فإن قلت : إن كان لا يوجبه فإنه لا ينفيه .
قيل : ينفيه ما بعده من قوله تعالى : « إنما الله إله واحد » [ سورة النساء : 171 ] . فإن قيل : فإنه كما ينفي الإلهين كذلك ينفي الآلهة . وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديرهم صحيحا كتقديرك .
قيل : هو كما قلت ينفي الآلهة . ولكنهم إذا زعموا أن التقدير " ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة " وكان ذلك - والعياذ بالله - من الشرك يقتضي إثبات آلهة ، كانوا قد دفعوا هذا النفي وخالفوه وأخرجوه إلى المناقضة . فإذا كان كذلك كان محالا أن يكون للصحة سبيل إلى ما قالوه. وليس كذلك الحال فيما قدرناه، لأنا لم نقدر شيئا يقتضي إثبات إلهين - تعالى الله - حتى يكون حالنا حال من يدفع ما يوجبه هذا الكلام من نفيهما .
يبين لك ذلك: أنه يصح لنا أن نتبع ما قدرناه نفي الاثنين، ولا يصح لهم .
تفسير ذلك أنه يصح أن تقول : " ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان " لأن ذلك يجري مجرى أن تقول : " ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان " وهذا صحيح . ولا يصح لهم أن يقولوا : " ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا إلهان " لأن ذلك يجري [ ص: 383 ] مجرى أن يقولوا : " ولا تقولوا آلهتنا إلهان " وذلك فاسد فاعرفه وأحسن تأمله .
455- ثم إن هاهنا طريقا آخر، وهو أن تقدر : " ولا تقولوا الله والمسيح وأمه ثلاثة " . أي نعبدهما كما نعبد الله .
يبين ذلك قوله تعالى : « لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة » [ سورة المائدة : 73 ] . وقد استقر في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصف من الأوصاف، وأن يجعلوهما شبيهين له، قالوا : " هم ثلاثة " . كما يقولون إذا أرادوا إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه : " هما اثنان " . وعلى هذا السبيل كأنهم يقولون : " هم يعدون معدا واحدا " . ويوجب لهم التساوي والتشارك في الصفة والرتبة وما شاكل ذلك .
456- واعلم أنه لا معنى لأن يقال : إن القول حكاية . وأنه إذا كان حكاية لم يلزم منه إثبات الآلهة، لأنه يجري مجرى أن تقول : " إن من دين الكفار أن يقولوا الآلهة ثلاثة " . وذلك لأن الخطاب في الآية للنصارى أنفسهم ألا ترى إلى قوله تعالى : « يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم » [ سورة النساء : 171 ] [ ص: 384 ] . وإذا كان الخطاب للنصارى، كان تقدير الحكاية محالا ف " لا تقولوا " إذن في معنى " لا تعتقدوا " . وإذا كان في معنى الاعتقاد لزم إذا قدر " ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة " ما قلنا إنه يلزم من إثبات الآلهة وذلك لأن الاعتقاد يتعلق بالخبر لا بالمخبر عنه .
فإذا قلت : “ لا تعتقد أن الأمراء ثلاثة " كنت نهيته عن أن يعتقد كون الأمراء على هذه العدة، لا عن أن يعتقد أن هاهنا أمراء . هذا ما لا يشك فيه عاقل، وإنما يكون النهي عن ذلك إذا قلت : “ لا تعتقد أن هاهنا أمراء " لأنك حينئذ تصير كأنك قلت : لا تعتقد وجود أمراء .
هذا، ولو كان الخطاب مع المؤمنين، لكان تقدير الحكاية لا يصح أيضا . ذاك لأنه لا يجوز أن يقال : " إن المؤمنين نهوا عن أن يحكوا عن النصارى مقالتهم ويخبروا عنهم بأنهم يقولون كيت وكيت " . كيف ؟ وقد قال الله تعالى : « وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله » [ سورة التوبة : 30 ] . ومن أين يصح النهي عن حكاية قول المبطل، وفي ترك حكايته ترك له وكفره، وامتناع من النعي عليه، والإنكار لقوله، والاحتجاج عليه، وإقامة الدليل على بطلانه . لأنه لا سبيل إلى شيء من ذلك إلا من بعد حكاية القول والإفصاح به، فاعرفه .