[ ص: 365 ]
فصل
عود إلى مسألة " اللفظ " و " المعنى " وما يعرض فيه من الفساد
435- واعلم أني على طول ما أعدت وأبدأت، وقلت وشرحت في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث " اللفظ " لربما ظننت أني لم أصنع شيئا وذاك أنك ترى الناس كأنه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده على التقليد البحت، وعلى التوهم والتخيل ، وإطلاق اللفظ من غير معرفة بالمعنى، قد صار ذاك الدأب والديدن واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد . وهذا الذي بيناه وأوضحناه، كأنك ترى أبدا حجازا بينهم وبين أن يعرفوه وكأنك تسمعهم منه شيئا تلفظه أسماعهم، وتنكره نفوسهم . وحتى كأنه كلما كان الأمر أبين، وكانوا عن العلم به أبعد وفي توهم خلافه أقعد وذاك لأن الاعتقاد الأول قد نشب في قلوبهم، وتأشب فيها، ودخل بعروقه في نواحيها وصار كالنبات السوء الذي كلما قلعته عاد فنبت .
436- والذي له صاروا كذلك، أنهم حين رأوهم يفردون " اللفظ " عن " المعنى " ويجعلون له حسنا على حدة، ورأوهم قد قسموا الشعر فقالوا : " إن منه ما حسن لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه دون معناه، ومنه ما حسن معناه دون لفظه " ورأوهم يصفون " اللفظ " بأوصاف لا يصفون بها " المعنى " ظنوا أن للفظ ، من حيث هو لفظ حسنا ومزية ونبلا [ ص: 366 ] وشرفا، وأن الأوصاف التي نحلوه إياها هي أوصافه على الصحة ، وذهبوا عما قدمنا شرحه من أن لهم في ذلك رأيا وتدبيرا، وهو أن يفصلوا بين المعنى الذي هو الغرض، وبين الصورة التي يخرج فيها، فنسبوا ما كان من الحسن والمزية في صورة المعنى إلى " اللفظ " ووصفوه في ذلك بأوصاف هي تخبر عن أنفسها أنها ليست له، كقولهم: " إنه حلي المعنى وإنه كالوشي عليه، وإنه قد كسب المعنى دلا وشكلا، وإنه رشيق أنيق، وإنه متمكن، وإنه على قدر المعنى لا فاضل ولا مقصر " إلى أشباه ذلك مما لا يشك أنه لا يكون وصفا له من حيث هو لفظ وصدى صوت . إلا أنهم كأنهم رأوا بسلا حراما أن يكون لهم في ذلك فكر وروية، وأن يميزوا فيه قبيلا من دبير .
437- ومما الصفة فيه للمعنى وإن جرى في ظاهر المعاملة على اللفظ إلا أنه يبعد عند الناس كل البعد أن يكون الأمر فيه كذلك، وأن لا يكون من صفة اللفظ بالصحة والحقيقة- وصفنا اللفظ بأنه " مجاز " .
وذاك أن العادة قد جرت بأن يقال في الفرق بين " الحقيقة " و " المجاز " : إن " الحقيقة " أن يقر اللفظ على أصله في اللغة و " المجاز " أن يزال عن موضعه ويستعمل في غير ما وضع له، فيقال : " أسد " ويراد " شجاع " . و " بحر " ويراد جواد .
[ ص: 367 ] وهو وإن كان شيئا قد استحكم في النفوس حتى إنك ترى الخاصة فيه كالعامة، فإن الأمر بعد على خلافه . وذاك أنا إذا حققنا لم نجد لفظ " أسد " قد استعمل على القطع والبت في غير ما وضع له . ذاك لأنه لم يجعل في معنى " شجاع " على الإطلاق، ولكن جعل الرجل بشجاعته أسدا، فالتجوز في أن ادعيت للرجل أنه في معنى الأسد، وأنه كأنه هو في قوة قلبه وشدة بطشه، وفي أن الخوف لا يخامره، والذعر لا يعرض له . وهذا - إن أنت حصلت - تجوز منك في معنى اللفظ لا اللفظ، وإنما يكون اللفظ مزالا بالحقيقة عن موضعه ومنقولا عما وضع له، أن لو كنت تجد عاقلا يقول : " هو أسد " وهو لا يضمر في نفسه تشبيها له بالأسد، ولا يريد إلا ما يريده إذا قال: " هو شجاع " وذلك ما لا يشك في بطلانه .
" التجوز في ذكر " اللفظ " وأنه المراد به " المعنى
438- وليس العجب إلا أنهم لا يذكرون شيئا من " المجاز " إلا قالوا : " إنه أبلغ من الحقيقة " فليت شعري إن كان لفظ " أسد " قد نقل عما وضع له في اللغة وأزيل عنه، وجعل يراد به " الشجاع " هكذا غفلا ساذجا . فمن أين يجب أن يكون قولنا : " أسد " أبلغ من قولنا " شجاع " ؟
إزالة شبهة في شأن المجاز
وهكذا الحكم في " الاستعارة " هي ، وإن كانت في ظاهر المعاملة من صفة " اللفظ " وكنا نقول : " هذه لفظة مستعارة " و " قد استعير له اسم الأسد " فإن مآل الأمر إلى أن القصد بها إلى المعنى .
[ ص: 368 ]
بيان مهم في معنى " جعلته أسدا " ونحو ذلك
439- يدلك على ذلك أنا نقول : " جعله أسدا " و " جعله بدرا " و " جعله بحرا " . فلو لم يكن القصد بها إلى المعنى، لم يكن لهذا الكلام وجه، لأن " جعل " لا تصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء . كقولنا : " جعلته أميرا " و " جعلته واحد دهره " تريد : أثبت له ذلك . وحكم " جعل " إذا تعدى إلى مفعولين حكم " صير " فكما لا تقول : “ صيرته أميرا " إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة، كذلك لا يصح أن تقول : " جعلته أسدا " إلا على معنى أنك جعلته في معنى الأسد . ولا يقال : " جعلته زيدا " . بمعنى سميته زيدا، ولا يقال للرجل : " اجعل ابنك زيدا " بمعنى سمه زيدا و " ولد لفلان ابن فجعله زيدا " . وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصل .
بيان في قوله « وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا »
فأما قوله تعالى : « وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا » [ سورة الزخرف : 19 ] فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها " وذلك أن المعنى على أنهم أثبتوا للملائكة صفة " الإناث " واعتقدوا وجودها فيهم . وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم أعني إطلاق اسم " البنات " . وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ " الإناث " أو لفظ " البنات " اسما من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة . هذا محال لا يقوله له عاقل : أما تسمع قول الله تعالى : « أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون » [ سورة الزخرف : 19 ]؟ فإن كانوا لم يزيدوا على أن أجروا الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى بإجرائه عليهم، فأي معنى لأن يقال : " أشهدوا خلقهم " ؟ هذا، ولو كانوا [ ص: 369 ] لم يقصدوا إثبات صفة، ولم يزيدوا على أن وضعوا اسما، لما استحقوا إلا اليسير من الذم ولما كان هذا القول منهم كفرا. والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى .
441- وجملة الأمر أنه إن قيل : " إنه ليس في الدنيا علم قد عرض للناس فيه من فحش الغلط، ومن قبيح التورط، ومن الذهاب مع الظنون الفاسدة- ما عرض لهم في هذا الشأن " ظننت أن لا يخشى على من يقوله الكذب . وهل عجب أعجب من قوم عقلاء يتلون قول الله تعالى : « قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا » [ سورة الإسراء : 88 ] ويؤمنون به، ويدينون بأن القرآن معجز، ثم يصدون بأوجههم عن برهان الإعجاز ودليله، ويسلكون غير سبيله ؟ ولقد جنوا - لو دروا ذاك - عظيما .