تنبيهات الأول: زعم بعضهم أن شرط صحة النفي عن الشيء صحة اتصاف النفي عنه بذلك الشيء، وهو مردود بقوله: وما ربك بغافل عما يعملون . وما كان ربك نسيا . لا تأخذه سنة ولا نوم ، ونظائره. [ ص: 324 ] والصواب أن الثاني: انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا. وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه. من الأول: نفي الذات الموصوفة قد يكون نفيا للصفة دون الذات، وقد يكون نفيا للذات أيضا. وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام . أي بل هم جسد يأكلونه. ومن الثاني: لا يسألون الناس إلحافا . أي لا سؤال لهم أصلا، فلا يحصل منهم إلحاف. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . أي لا شفيع لهم أصلا. فما تنفعهم شفاعة الشافعين . أي لا شافعين لهم تنفعهم شفاعتهم، بدليل: فما لنا من شافعين . ويسمى هذا النوع عند أهل البديع نفي الشيء بإيجابه. وعبارة ابن رشيق في تفسيره: أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه، بأن ينفي ما هو من سببه، كوصفه، وهو المنفي في الباطن. وعبارة غيره: أن تنفي الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا مبالغة في النفي وتأكيدا له. ومنه: ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ، فإن الإله مع الله لا يكون إلا عن غير برهان. ويقتلون النبيين بغير حق ، فإن قتلهم لا يكون إلا بغير حق. رفع السماوات بغير عمد ترونها . فإنها لا عمد لها أصلا. الثالث: قد ينفي الشيء أصلا لعدم كمال وصفه، أو انتفاء ثمرته، كقوله في صفة أهل النار: لا يموت فيها ولا يحيا . فنفى عنه الموت، لأنه ليس بموت صريح، ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة. وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون . فإن المعتزلة احتجوا بها على نفي الرؤية، فإن النظر في قوله: إلى ربها ناظرة ، لا يستلزم الإبصار. [ ص: 325 ] ورد بأن المعنى أنها تنظر إليه بإقبالها عليه، وليست تبصر شيئا. ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . فإنه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسمي، تم نفاه آخرا عنهم لعدم جريهم على موجب العلم، قاله السكاكي. الرابع: المجاز. قالوا: يصح نفيه بخلاف الحقيقة. وأشكل على ذلك: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . فإن المنفي فيه الحقيقة. وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المرتب عليه، وهو وصوله إلى الكفار، فالوارد عليه النفي هنا مجاز لا حقيقة، والتقدير: وما رميت خلقا إذ رميت كسبا. أو ما رميت انتهاء إذ رميت ابتداء. الخامس: نفي الاستطاعة قد يراد به نفي القدرة والإمكان، وقد يراد به نفي الامتناع، وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة. من الأول: فلا يستطيعون توصية . فلا يستطيعون ردها . فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا . ومن الثاني: هل يستطيع ربك . على القراءتين، أي هل يفعل، أو هل تجيبنا إلى أن نسأل، فقد علموا أن الله قادر على الإنزال، وأن عيسى قادر على السؤال. ومن الثالث: إنك لن تستطيع معي صبرا . قاعدة نفي العام يدل على نفي الخاص، وثبوته لا يدل على ثبوته، وثبوث الخاص يدل على ثبوت العام، ونفيه يدل على نفيه. ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به، فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام. فالأول كقوله: فلما أضاءت ما حوله [ ص: 326 ] ذهب الله بنورهم ، ولم يقل بضوئهم بعد قوله: أضاءت، لأن النور أعم من الضوء، إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على النور الكثير. ولذلك قال: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا . ففي الضوء دلالة على النور، فهو أخص منه، فعدمه يوجب عدم الضوء بخلاف العكس. والقصد إزالة النور منه أصلا، ولذلك قال عقبه: وتركهم في ظلمات لا يبصرون . ومنه: ليس بي ضلالة ، ولم يقل ضلال، كما قالوا: إنا لنراك في ضلال مبين . لأنها أعم منه، فكان أبلغ في نفي الضلال. وعبر عن هذا بأن نفي الواحد يلزم منه نفي الجنس ألبتة، وبأن نفي الأدنى يلزم منه نفي الأعلى. والثاني كقوله: وجنة عرضها السماوات والأرض . - ولم يقل طولها، لأن العرض أخص، إذ كل ما له عرض فله طول ولا ينعكس. ونظير هذه القاعدة أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل. وقد أشكل على هذا آيتان: قوله تعالى: وما ربك بظلام للعبيد . وقوله: وما كان ربك نسيا . وأجيب عن الآية الأولى بأجوبة: أحدها: أن ظلاما، وإن كان للكثرة، جيء به في مقابلة العبيد الذي هو جمع كثرة، ويرشحه أنه تعالى قال: علام الغيوب ، فقابل صيغة فعال بالجمع. وقال في آية أخرى: عالم الغيب - فقابل صيغة فاعل الدال على أصل الفعل بالواحد. الثاني: أنه نفى الظلم الكثير، فينتفي القليل ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه فلأن يترك القليل أولى. الثالث: أنه على النسبة، أي بذي ظلم. حكاه ابن مالك عن المحققين. [ ص: 327 ] الرابع: أنه أتى بمعنى فاعل لا كثرة فيه. الخامس: أن أقل القليل لو ورد منه تعالى لكان كثيرا، كما يقال: زلة العالم كبيرة. السادس: أنه أراد ليس بظالم، ليس بظالم، تأكيدا للنفي، فعبر عن ذلك بقوله: ليس بظلام. السابع: أنه أراد جوابا لمن قال: ظلام، والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص لم يكن له مفهوم. الثامن: أن صيغة المبالغة وغيرها من صفات الله سواء في الإثبات، فجرى النفي على ذلك. التاسع: أنه قصد التعريض بأن ثم ظلاما للعبيد من ولاة الجور. ويجاب عن الثانية بهذه الأجوبة، وبعاشر - وهو مناسبة رؤوس الآيات.
فائدة قال صاحب الياقوتة: قال ثعلب والمبرد: العرب إذا جاءت بين الكلامين بجحدين كان الكلام إخبارا، نحو: وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام . المعنى إنا جعلناهم جسدا يأكلون الطعام. وإذا كان الجحد في أول الكلام كان جحدا حقيقيا، نحو: ما زيد بخارج. وإذا كان في أول الكلام جحدان كان أحدهما زائدا، وعليه: فيما إن مكناكم فيه ، في أحد الأقوال.