قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب .
فيه أربع مسائل :
الأولى : هذه الآية مشكلة ; لأنه قال جل وعز :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32اصطفينا من عبادنا ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32فمنهم ظالم لنفسه وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . قال
النحاس : فمن أصح ما روي في ذلك ما روي عن
ابن عباس nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32فمنهم ظالم لنفسه قال : الكافر ; رواه
ابن عيينة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16666عمرو بن دينار عن
عطاء عن
ابن عباس أيضا . وعن
ابن عباس أيضا
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات قال : نجت فرقتان ، ويكون التقدير في العربية :
[ ص: 310 ] فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه ; أي كافر . وقال
الحسن : أي فاسق . ويكون الضمير الذي في يدخلونها يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم . وعن
عكرمة وقتادة والضحاك والفراء أن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي على الإطلاق . قالوا : وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=7وكنتم أزواجا ثلاثة الآية . قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم . ورواه
مجاهد عن
ابن عباس . قال
مجاهد :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32فمنهم ظالم لنفسه أصحاب المشأمة ،
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32ومنهم مقتصد أصحاب الميمنة ،
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32ومنهم سابق بالخيرات السابقون من الناس كلهم . وقيل : الضمير في يدخلونها يعود على الثلاثة الأصناف ، على ألا يكون الظالم هاهنا كافرا ولا فاسقا . وممن روي عنه هذا القول
عمر وعثمان nindex.php?page=showalam&ids=4وأبو الدرداء ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود وعقبة بن عمرو nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة ، والتقدير على هذا القول : أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر . و ( المقتصد ) قال
محمد بن يزيد : هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها ; فيكون
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=33جنات عدن يدخلونها عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين ; وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري . وقال
كعب الأحبار : استوت مناكبهم - ورب
الكعبة - وتفاضلوا بأعمالهم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11813أبو إسحاق السبيعي : أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج . وروى
أسامة بن زيد أن
النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : كلهم في الجنة .
وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له . فعلى هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا مضافا حذف كما حذف المضاف في
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=82واسأل القرية أي اصطفينا دينهم فبقي اصطفيناهم ; فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=31ولا أقول للذين تزدري أعينكم أي تزدريهم ، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=132إن الله اصطفى لكم الدين . قال
النحاس : وقول ثالث : يكون الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته ; فيكون :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=33جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير . وهذا قول جماعة من أهل النظر ; لأن الضمير في حقيقة النظر بما يليه أولى .
[ ص: 311 ] قلت : القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله ; لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله ، ولا اصطفي دينهم . وهذا قول ستة من الصحابة ، وحسبك . وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية .
الثانية : قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32أورثنا الكتاب أي أعطينا . والميراث عطاء حقيقة أو مجازا ; فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر . و ( الكتاب ) هاهنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة
محمد صلى الله عليه وسلم القرآن ، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة ، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا . ( اصطفينا ) أي اخترنا . واشتقاقه من الصفو ، وهو الخلوص من شوائب الكدر . وأصله اصتفونا ، فأبدلت التاء طاء والواو ياء . من عبادنا قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال
ابن عباس وغيره . وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة ، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأول لم يرثوه . وقيل : المصطفون الأنبياء ، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=16وورث سليمان داود ، وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=6يرثني ويرث من آل يعقوب فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب .
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32فمنهم ظالم لنفسه من وقع في صغيرة . قال
ابن عطية : وهذا قول مردود من غير ما وجه . قال
الضحاك : معنى
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32فمنهم ظالم لنفسه أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك .
الحسن : من أممهم ، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم . والآية في أمة
محمد صلى الله عليه وسلم وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق ، فقال
سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم الجاهل . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15874ذو النون المصري : الظالم الذاكر الله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال
الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال
ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار ، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة ، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب . وقيل : الظالم الزاهد في الدنيا ، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة ، والمقتصد العارف ، والسابق المحب . وقيل : الظالم الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد الصابر على البلاء ، والسابق المتلذذ بالبلاء . وقيل : الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده
[ ص: 312 ] على الهيبة . وقيل : الظالم الذي أعطي فمنع ، والمقتصد الذي أعطي فبذل ، والسابق الذي منع فشكر وآثر . يروى أن عابدين التقيا فقال : كيف حال إخوانكم بالبصرة ؟ قال : بخير ، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا . فقال : هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا . وقيل : الظالم من استغنى بماله ، والمقتصد من استغنى بدينه ، والسابق من استغنى بربه . وقيل : الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به ، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به ، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به . وقيل : السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن ، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة ; لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره . وقال بعض أهل العلم في هذا : بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين ، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت ، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة ، فهو أولى بالظلم .
وقيل : الظالم الذي يحب نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق الذي يحب ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف . وقالت عائشة رضي الله عنها : السابق الذي أسلم قبل الهجرة ، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة ، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف ; وهم كلهم مغفور لهم .
قلت : ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها
الثعلبي في تفسيره . وبالجملة فهم طرفان وواسطة ، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل ; ومنه قول
جابر بن حني التغلبي :
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا وليس علينا قتلهم بمحرم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد ، أي ما لم يجوروا ، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا ; فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين ، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات .
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32ذلك هو الفضل الكبير يعني إتياننا الكتاب لهم . وقيل : ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير .
الثالثة : وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل : التقدير في الذكر لا يقتضي تشريفا ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=20لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة . وقيل : قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم ، والسابقين أقل من القليل ; ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ولم يذكره غيره . وقيل : قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه ، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه . واتكل المقتصد على حسن ظنه ، والسابق على طاعته .
[ ص: 313 ] وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله ، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه : قدم الظالم ليخبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية ، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله ، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) . وقال
محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء ; لأن الاصطفاء يوجب الإرث ، لا الإرث يوجب الاصطفاء ، ولذلك قيل في الحكمة : صحح النسبة ثم ادع في الميراث . وقيل : أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع في ( سورة الحج ) على المساجد ، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب ، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله . وقيل : إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=167لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=49يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=20لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة .
قلت : ولقد أحسن من قال :
وغاية هذا الجود أنت وإنما يوافي إلى الغايات في آخر الأمر
الرابعة :
nindex.php?page=treesubj&link=29006قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=33جنات عدن يدخلونها جمعه في الدخول ; لأنه ميراث ، والعاق والبار في الميراث سواء إذا كانوا معترفين بالنسب ; فالعاصي والمطيع مقرون بالرب . وقرئ : ( جنة عدن ) على الإفراد ، كأنها جنة مختصة بالسابقين لقلتهم ; على ما تقدم . و ( جنات عدن ) بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ; أي يدخلون جنات عدن يدخلونها . وهذا للجميع ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى . وقرأ
أبو عمرو ( يدخلونها ) بضم الياء وفتح الخاء . قال : لقوله : ( يحلون ) . وقد مضى في ( الحج ) الكلام في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=33يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=34وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن قال
أبو ثابت : دخل رجل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحدتي يسر لي جليسا صالحا . فقال
أبو الدرداء : لئن كنت صادقا فلأنا أسعد بذلك منك ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
[ ص: 314 ] nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات - قال - فيجيء هذا السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ويوبخ ويقرع ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=34الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور وفي لفظ آخر وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=34الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور - إلى قوله -
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=35ولا يمسنا فيها لغوب . وقيل : هو الذي يؤخذ منه في مقامه ; يعني يكفر عنه بما يصيبه من الهم والحزن ، ومنه قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=123من يعمل سوءا يجز به يعني في الدنيا . قال
الثعلبي : وهذا التأويل أشبه بالظاهر ; لأنه قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=33جنات عدن يدخلونها ، ولقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32الذين اصطفينا من عبادنا والكافر والمنافق لم يصطفوا .
قلت : وهذا هو الصحيح ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=832437ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ، ريحها طيب وطعمها مر فأخبر أن المنافق يقرؤه ، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن المنافق في الدرك الأسفل من النار ، وكثير من الكفار
واليهود والنصارى يقرءونه في زماننا هذا . وقال
مالك : قد يقرأ القرآن من لا خير فيه . والنصب : التعب . واللغوب : الإعياء .