( فصل ) " فهذان القولان " : الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب ويخلدون في النار ; وقول من يخلدهم في النار ويجزم بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة ويقول ليس معهم من الإيمان شيء لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين أهل الفقه والحديث بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع . وكذلك قول المرجئة وقال لا أعلم أن أحدا منهم يدخل النار هو أيضا من الأقوال المبتدعة ; بل قول من وقف في أهل الكبائر من غلاة السلف والأئمة متفقون على ما تواترت به النصوص من أنه . وأما لا بد أن يدخل النار قوم من أهل القبلة ثم يخرجون منها فهذا لا نعرفه قولا لأحد . وبعده من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من [ ص: 502 ] أهل القبلة وهذا من أقوال الملاحدة والكفار . وربما احتج بعضهم بقوله : { قول من يقول : ما ثم عذاب أصلا وإنما هو تخويف لا حقيقة له ذلك يخوف الله به عباده } فيقال لهذا : التخويف إنما يكون تخويفا إذا كان هناك مخوف يمكن وقوعه بالمخوف فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له كما توهم الصبي الصغير . ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخويف للعقلاء المميزين . لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف وهذا شبيه بما تقول " الملاحدة " المتفلسفة والقرامطة ونحوهم : من أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم : خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له فإنما يعلق لمصلحتهم في الدنيا إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريقة .
و " هذا القول " مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل ; فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة : من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم فإن البارع منهم في العلم [ ص: 503 ] والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي وتباح له المحظورات وتسقط عنه الواجبات فتظهر أضغانهم وتنكشف أسرارهم ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن حتى سموهم باطنية ; لإبطانهم خلاف ما يظهرون . فلو كان - والعياذ بالله - دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه وأظهروا باطنه . وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره وأخبر الناس بمقاصده ومراداته كانوا أعظم الأمة لزوما لطاعة أمره - سرا وعلانية - ومحافظة على ذلك إلى الموت وكل من كان منهم إليه وبه أخص وبباطنه أعلم - كأبي بكر وعمر - كانوا أعظمهم لزوما للطاعة سرا وعلانية ومحافظة على أداء الواجب واجتناب المحرم باطنا وظاهرا وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة : الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور واجبا على السالك حتى يصير عارفا محققا في زعمهم ; وحينئذ يسقط عنه التكليف ويتأولون على ذلك قوله تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة واليقين هنا الموت وما بعده . كما قال تعالى عن أهل النار : { وكنا نخوض مع الخائضين } { وكنا نكذب بيوم الدين } { حتى أتانا اليقين } { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } . قال الحسن البصري إن الله لم يجعل لعباده المؤمنين أجلا دون الموت [ ص: 504 ] وتلا هذه الآية . ومنه { : أما عثمان بن مظعون فقد أتاه اليقين من ربه عثمان بن مظعون } وهؤلاء قد يشهدون القدر أولا وهي الحقيقة الكونية ويظنون أن غاية العارف أن يشهد القدر ويفنى عن هذا الشهود وذلك المشهد لا تمييز فيه بين المأمور والمحظور ومحبوبات الله ومكروهاته وأوليائه وأعدائه . قوله صلى الله عليه وسلم لما توفي
وقد يقول أحدهم : العارف شهد أولا الطاعة والمعصية ثم شهد طاعة بلا معصية - يريد بذلك طاعة القدر - كقول بعض شيوخهم : أنا كافر برب يعصى وقيل له عن بعض الظالمين : هذا ماله حرام فقال : إن كان عصى الأمر فقد أطاع الإرادة . ثم ينتقلون " إلى المشهد الثالث " لا طاعة ولا معصية وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود وهذا جهمية الصوفية كما أن غاية إلحاد المبتدعة الشيعة وكلا الإلحادين يتقاربان . وفيهما من الكفر ما ليس في دين القرمطة آخر إلحاد اليهود والنصارى ومشركي العرب والله أعلم .