والمقصود هنا بيان أن " الأدلة العقلية " التي يعتمدون عليها في الأصول والعلوم الكلية والإلهية هي كذلك . فأما " الأدلة السمعية " فقد ذكرت من هذا [ ص: 289 ] أمورا متعددة الجهمية والرافضة وغيرهم مثل احتجاج مما يحتج به الجهمية نفاة الصفات بقوله : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } وقد ثبت في غير موضع أنها تدل على نقيض مطلوبهم وتدل على الإثبات . وهذا مبسوط في غير موضع في الرد على الجهمية يتضمن الكلام على تأسيس أصولهم التي جمعها أبو عبد الله الرازي في مصنفه الذي سماه " تأسيس التقديس " ; فإنه جمع فيه عامة حججهم ولم أر لهم مثله . وكذلك احتجاجهم على نفي الرؤية بقوله : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } فإنها تدل على إثبات الرؤية ونفي الإحاطة .
وكذلك الاحتجاج بقوله : { ليس كمثله شيء } ونحو ذلك وكذلك احتجاج الشيعة بقوله : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } وبقوله : " { هارون من موسى ؟ } " ونحو ذلك هي دليل على نقيض مذهبهم كما بسط هذا في كتاب " منهاج أهل السنة النبوية " في الرد على أما ترضى أن تكون مني بمنزلة الرافضة . ونظائر هذا متعددة . والمقصود هنا " الأدلة العقلية " ; فإن كل من له معرفة يعرف أن السمعيات إنما تدل على إثبات الصفات . وأما الرافضة فعمدتهم السمعيات لكن كذبوا أحاديث كثيرة جدا راج كثير منها على أهل السنة " وروى خلق كثير منها أحاديث حتى عسر تمييز الصدق من الكذب على أكثر الناس إلا على أئمة الحديث العارفين بعلله متنا وسندا . [ ص: 290 ] كما أن الجهمية أتوا بحجج عقلية اشتبهت على أكثر الناس وراجت عليهم إلا على قليل ممن لهم خبرة بذلك . والكلام على أحاديث الرافضة وبيان الفرقان بين الحديث الصدق والكذب مذكور في غير هذا الموضع كالرد على الرافضة .
والمقصود هنا الكلام على " الأدلة العقلية " التي يحتج بها المبطل من الجهمية نفاة الصفات ومن الممثلة الذين يمثلونه بخلقه وعلى الأدلة التي يحتج بها القدرية النافية والقدرية المجبرة الجهمية ; فإن هذين ( الأصلين : وهما " الصفات " و " القدر " - ويسميان التوحيد والعدل - هما أعظم وأجل ما تكلم فيه في الأصول والحاجة إليهما أعم ومعرفة الحق فيهما أنفع من غيرهما بل وكذلك سائر ما يحتج به في أصول الدين من الحجج العقلية والسمعية . وأصل ذلك الكلام في أفعال الرب تعالى وأقواله في " مسألة حدوث العالم " وفي " مسألة القرآن وكلام الله " .
فنقول : إذا تدبر الخبير - ما احتج به من يقول : إن القرآن قديم كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم : كالقاضي وأتباعه أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الوليد الباجي وأبي منصور الماتريدي وغيرهم من الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية - لم توجد عند التحقيق تدل إلا على مذهب السلف والأئمة الذي يدل عليه الكتاب والسنة . [ ص: 291 ] وكذلك إذ تدبر ما يحتج به من يقول : إن القرآن مخلوق . إنما يدل على قول السلف والأئمة . أما ( الأول : فلأن عمدة القائلين بقدم الكلام من الأدلة العقلية ( حجتان عليهما اعتماد الأشعري وأصحابه ومن وافقهم : كالقاضي أبي يعلى وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهما وهذه هي عمدة أئمة النظار كابن كلاب والأشعري ; والقلانسي وأمثالهم في نفس الأمر من العقليات . وهي عمدة من لا يعتمد في الأصول في مثل هذه المسألة وأمثالها إلا على العقليات : كأبي المعالي ومتبعيه . ( الحجة الأولى : أنه لو لم يكن الكلام قديما للزم أن يتصف في الأزل بضد من أضداده : إما السكوت وإما الخرس ولو كان أحد هذين قديما لامتنع زواله وامتنع أن يكون متكلما فيما لا يزال ولما ثبت أنه متكلم فيما لم يزل ثبت أنه لم يزل متكلما وأيضا فالخرس آفة ينزه الله عنها .
و ( الحجة الثانية : أنه لو كان مخلوقا لكان قد خلقه إما في نفسه أو في غيره أو قائما بنفسه و ( الأول ممتنع لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث و ( الثاني باطل لأنه يلزم أن يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه و ( الثالث باطل لأن الكلام صفة والصفة لا تقوم بنفسها . فلما بطلت الأقسام الثلاثة تعين أنه قديم . فيقال : أما ( الحجة الأولى فهي تدل على مذهب السلف وأنه لم يزل متكلما [ ص: 292 ] إذا شاء وكيف شاء فيدل على أن نوع الكلام قديم لا على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته وأن الكلام شيء واحد هو قديم . وكذلك الفلاسفة " القائلين بقدم العالم على قدم الفاعلية إنما يدل على مذهب السلف أيضا فهؤلاء الذين احتجوا على قدم مفعوله المعين - وهو الفلك - والذين احتجوا على قدم كلامه المعين كل ما احتجوا به من دليل صحيح فإنه لا يدل على مطلوبهم بل إنما يدل على مذهب السلف المتبعين للرسول فتبين أن " الأدلة العقلية " الصحيحة من جميع الطوائف إنما تدل على تصديق الرسول وتحقيق ما أخبر به لا على خلاف قوله وهي من آيات الله الدالة على تصديق الأنبياء التي قال الله فيها : { احتجاج " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } وهي من الميزان الذي أنزله الله تعالى . وكذلك أدلة " المعتزلة والكرامية " وغيرهما كما سنذكره إن شاء الله ; إذ " المقصود هنا " الكلام على ما تعتمد عليه أئمة النظار من الأشعرية ونحوهم والفلاسفة ونحوهم وهاتان الطائفتان كل طائفة تقابل الأخرى بالمشرق والمغرب ; وكثير من الناس مع هؤلاء تارة ومع الأخرى تارة : كالغزالي والرازي والآمدي ونحوهم .
والمقصود هنا بيان دلالة " الأدلة العقلية " على مذهب السلف الذي جاء به الكتاب والسنة . فنقول : - أما ( الحجة الأولى وهي قولهم : لو لم يكن متكلما في الأزل لكان متصفا بضده إما السكوت وإما الخرس ; لأنه حي والحي إذا لم يكن متكلما كان [ ص: 293 ] ساكتا أو أخرس كما أنه إذا لم يكن سميعا كان أصم وإذا لم يكن بصيرا كان أعمى ولأن ذاته قابلة للكلام والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده هكذا يحتجون له . وقد نوزعوا في ذلك وخالفهم العقلاء حتى أصحابهم المتأخرون : مثل الرازي والآمدي ; فإن أولئك ادعوا أن الجسم لما كان قابلا للأعراض لم يخل من كل نوع من أنواع الأعراض من بعضها وقالوا : إن الهواء له طعم ولون وريح فخالفهم الجمهور .
لكن تقرير " الحجة " بأن يقال : لأن الرب تعالى إذا كان قابلا للاتصاف بشيء لم يخل منه ; أو من ضده . أو يقال : بأنه إذا كان قابلا للاتصاف بصفة كمال لزم وجودها له ; لأن ما كان الرب قابلا له لم يتوقف وجوده له على غيره ; فإن غيره لا يجعله لا متصفا ولا فاعلا ; بل ذاته وحدها هي الموجبة لما كان قابلا له وإذا كانت ذاته هي الموجبة لما هو قابل له وذاته واجبة الوجود كان المقبول واجب الوجود له وهو إذا قدر أنه قابل للضدين لم يخل من أحدهما ; لأنه لو خلا من أحدهما لكان وجود أحدهما له متوقفا على سبب غير ذاته ; فإن التقدير أنه قابل له ووجود المقبول له ممكن وقد عرف أنه لا يتوقف على غيره وإن لم يكن موجدا له ولم تكن ذاته موجبة له وإلا امتنع وجوده ; فإن غيره لا يجعله موجودا له وإذا لم يوجد - لا بنفسه ولا بغيره - كان ممتنعا والتقدير أنه ممكن ; فما كان ممكنا له كان واجبا له . [ ص: 294 ] فإذا قررت " الحجة " على هذا الوجه لم يحتج أن يقال : كل قابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ; فإن هذه الدعوى الكلية باطلة ; بل يدعي ذلك في حق الله خاصة ; لما ذكر من الدليل والفرق بينه وبين غيره ; فإن غيره إذا كان قابلا للشيء كان وجود القبول فيه من غيره وهو الله تعالى وإحداث الله لذلك القبول لا يجب أن يكون مقارنا للقابل ; بل يجوز أن يتوقف على شروط يحدثها الله وعلى موانع يزيلها فوجود القبول هنا ليس منه بل من غيره ; فلم تكن ذاته كافية فيه وأما ; بل هو الأحد الصمد المستغني عن كل ما سواه وكل ما سواه مفتقر إليه مصنوع له ; فيمتنع أن يكون الرب مفتقرا إليه ; فإن ذلك هو " الدور القبلي " الممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء . الرب تعالى فلا يفتقر شيء من صفاته وأفعاله على غيره
فهذا تقرير هذه " وأنه لم يزل متكلما ; وهي تدل أيضا على قدم جميع صفاته وأن ذاته القديمة مستلزمة لصفات الكمال الممكنة فكل صفة كمال لا نقص فيه فإن الرب يتصف بها واتصافه بها من لوازم ذاته ولم يزل موصوفا بصفات الكمال وذاته هي المستلزمة لصفات كماله لا يجوز أن يحتاج في ثبوت صفات الكمال له إلى غيره والكلام صفة كمال ; فإن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر والذي يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته وأكمل ممن تكلم بغير مشيئته وقدرته إن كان ذلك معقولا . ويمكن تقريرها على أصول السلف بأن يقال : إما أن يكون قادرا على [ ص: 295 ] الكلام أو غير قادر ; فإن لم يكن قادرا فهو الأخرس وإن كان قادرا ولم يتكلم فهو الساكت . وأما " الحجة الدالة على " قدم الكلام الكلابية " فالكلام عندهم ليس بمقدور فلا يمكنهم أن يحتجوا بهذه . فيقال : هذه قد دلت على قدم الكلام لكن مدلولها قدم كلام معين بغير قدرته ومشيئته ؟ أم مدلولها أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته ؟ و ( الأول قول الكلابية و ( الثاني قول السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة . فيقال : مدلولها ( الثاني ; لا ( الأول لأن إثبات كلام يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته غير معقول ولا معلوم والحكم على الشيء فرع عن تصوره .
فيقال للمحتج بها لا أنت ولا أحد من العقلاء يتصور كلاما يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته فكيف تثبت بالدليل المعقول شيئا لا يعقل . وأيضا فقولك " لو لم يتصف بالكلام لاتصف بالخرس والسكوت " . إنما يعقل في الكلام بالحروف والأصوات ; فإن الحي إذا فقدها لم يكن متكلما فإما أن يكون قادرا على الكلام ولم يتكلم وهو الساكت . وإما أن لا يكون قادرا عليه وهو الأخرس . وأما ما يدعونه من " الكلام النفساني " فذاك لا يعقل أن من خلا عنه كان ساكتا أو أخرس فلا يدل بتقدير ثبوته [ على ] أن الخالي عنه يجب أن يكون ساكتا أو أخرس . [ ص: 296 ] وأيضا : فالكلام القديم " النفساني " الذي أثبتموه لم تثبتوا ما هو ؟ بل ولا تصورتموه وإثبات الشيء فرع تصوره فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته ؟ ولهذا كان أبو سعيد بن كلاب - رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة - لا يذكر في بيانها شيئا يعقل بل يقول : هو معنى يناقض السكوت والخرس .
والسكوت والخرس إنما يتصوران إذا تصور الكلام ; فالساكت هو الساكت عن الكلام والأخرس هو العاجز عنه أو الذي حصلت له آفة في محل النطق تمنعه عن الكلام وحينئذ فلا يعرف الساكت والأخرس حتى يعرف الكلام ولا يعرف الكلام حتى يعرف الساكت والأخرس . فتبين أنهم لم يتصوروا ما قالوه ولم يثبتوه ; بل هم في الكلام يشبهون النصارى في الكلمة وما قالوه في " الأقانيم " و التثليث " والاتحاد " فإنهم يقولون ما لا يتصورونه ولا يبينونه و " الرسل " عليهم السلام إذا أخبروا بشيء ولم نتصوره وجب تصديقهم .
وأما ما يثبت بالعقل فلا بد أن يتصوره القائل به وإلا كان قد تكلم بلا علم فالنصارى تتكلم بلا علم ; فكان كلامهم متناقضا ولم يحصل لهم قول معقول ; كذلك من تكلم في كلام الله بلا علم كان كلامه متناقضا ولم يحصل له قول يعقل ; ولهذا كان مما يشنع به على هؤلاء أنهم احتجوا في أصل دينهم ومعرفة حقيقة الكلام - كلام الله وكلام جميع الخلق - بقول شاعر نصراني يقال له الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
[ ص: 297 ] وقد قال طائفة : إن هذا ليس من شعره وبتقدير أن يكون من شعره فالحقائق العقلية أو مسمى لفظ الكلام الذي يتكلم به جميع بني آدم لا يرجع فيه إلى قول ألف شاعر فاضل دع أن يكون شاعرا نصرانيا اسمه الأخطل والنصارى قد عرف أنهم يتكلمون في كلمة الله بما هو باطل والخطل في اللغة هو الخطأ في الكلام وقد أنشد فيهم المنشد :قبحا لمن نبذ القرآن وراءه فإذا استدل يقول قال الأخطل
فإذا قال هؤلاء للمعتزلة والجهمية : الفعل لا يقوم به عندنا وعندكم والكلام يقوم به فكان كالصفات منعتهم المعتزلة ذلك وقالوا : الكلام عندنا كالفعل لا يقوم به لا هذا ولا هذا فإذا قالوا : لو لم يقم به الكلام لقام بغيره وكان الكلام صفة لذلك الغير انتقلوا إلى " الحجة الثانية " ولم يمكن تقرير الأولى إلا بالثانية ; فكان الاستدلال بالأولى وجعلها " حجة ثانية " باطلا ; ولهذا أعرض عنه كثير من متأخريهم وإنما اعتمدوا على " الثانية " كأبي المعالي وأتباعه .
[ ص: 298 ] وهذا السؤال لا يلزم السلف ; فإنهم إذا قالوا ; الكلام كالفعل وهو في الأزل لم يكن فاعلا لا عندنا ولا عندكم منعهم السلف وجمهور المسلمين هذا وقالوا : بل لم يزل خالقا فاعلا كما عليه السلف وجمهور طوائف المسلمين . وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة مما كتبوه له وكانوا " كلابية " فإما أن يكون هذا قول أو قول طائفة من أصحابه وبهذا تستقيم لهم هذه الحجة وإلا فمن سلم أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن كانت هذه الحجة منتقضة على أصله وقال منازعوه : الكلام في مقاله كالكلام في فعاله . ابن كلاب هو قول أكثر المسلمين : هو قول " والقول بأن الخلق غير المخلوق وأنه فعل يقوم بالرب الحنفية " وأكثر " الحنبلية " وإليه رجع القاضي أخيرا وهو الذي حكاه أبو يعلى البغوي عن أهل السنة وهو الذي ذكره أبو بكر الكلاباذي عن " الصوفية " وذكره في كتاب " التعرف لمذهب التصوف " وهو الذي ذكره البخاري في كتاب " أفعال العباد " إجماعا من العلماء وهو الذي ذكره ابن عبد البر وغيره عن أهل السنة . لكن الفعل : هل هو شيء واحد قديم كالإرادة ؟ أو هو حادث بذاته ؟ أو هو نوع لم يزل متصفا به . ؟ فيه ثلاثة أقوال للمسلمين وكلهم متفقون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كما تواتر ذلك عن الأنبياء ودلت عليه الدلائل العقلية - كما يقول ذلك من يقوله من والقول بأن مع الله شيئا قديما تقدمه من مفعولاته المتفلسفة - باطل عقلا وشرعا كما قد بسط في مواضع .
[ ص: 299 ] فإن قيل : إذا قلتم : لم يزل متكلما بمشيئته لزم وجود كلام لا ابتداء له وإذا لم يزل متكلما وجب أن لا يزال كذلك ; فيكون متكلما بكلام لا نهاية له وذلك يستلزم وجود ما لا يتناهى من الحوادث فإن كل كلمة مسبوقة بأخرى فهي حادثة ووجود ما لا يتناهى محال . قيل له : هذا الاستلزام حق وبذلك يقولون : إن كلمات الله لا نهاية لها كما قال تعالى : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } . وأما قولهم : وجود ما لا يتناهى من الحوادث محال فهذا بناء على دليلهم الذي استدلوا به على حدوث العالم وحدوث الأجسام وهو أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهذا الدليل باطل عقلا وشرعا وهو أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وهو أصل قول الجهمية نفاة الصفات وقد تبين فساده في مواضع . ولكن سنبين إن شاء الله أن هذا الدليل إذا ميز بين حقه وباطله فإنه يدل على حدوث ما سوى الله - وعلى مذهب السلف - وكان غلطة منهم وقولهم : كل ما لا يخلو من الحوادث - أي من الممكنات المفتقرة - فهو حادث فأخذوا هذا " قضية كلية " وقاسوا فيها الخالق على المخلوق قياسا فاسدا كما أن أولئك قالوا : القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده أخذوها " قضية كلية " .
والغلط في " القياس " يقع من تشبيه الشيء بخلافه وأخذ القضية الكلية باعتبار القدر المشترك من غير تمييز بين نوعيها فهذا هو " القياس الفاسد " [ ص: 300 ] كقياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا وقياس إبليس . ونحو ذلك من الأقيسة الفاسدة التي قال فيها بعض السلف : أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس يعني : قياس من يعارض النص ومن قاس قياسا فاسدا وكل قياس عارض النص فإنه لا يكون إلا فاسدا وأما القياس الصحيح فهو من الميزان الذي أنزله الله ولا يكون مخالفا للنص قط بل موافقا له . ومن هنا يظهر أيضا : أن ما عند المتفلسفة من الأدلة الصحيحة العقلية فإنما يدل على مذهب السلف أيضا ; فإن عمدتهم في " قدم العالم " على أن الرب لم يزل فاعلا وأنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن وأن يصير الفعل ممكنا له بعد أن لم يكن وأنه يمتنع أن يصير قادرا بعد أن لم يكن وهذا وجميع ما احتجوا به إنما يدل على قدم نوع الفعل ; لا يدل على قدم شيء من العالم لا فلك ولا غيره . فإذا قيل : إنه لم يزل فاعلا بمشيئته وقدرته وإن الفعل من لوازم الحياة - كما قال ذلك من قاله من أئمة السنة - كان هذا قولا بموجب جميع أدلتهم الصحيحة العقلية وكان هذا موافقا لقول السلف : لم يزل متكلما إذا شاء . فلم يزل متكلما إذا شاء فاعلا لما يشاء . وجميع ما احتج به الكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم على قدم الكلام إنما يدل على أنه لم يزل متكلما إذا شاء لا يدل على قدم كلام بلا مشيئة ولا على قدم كلام معين بل على قدم نوع الكلام .
[ ص: 301 ] وجميع ما يحتج به الفلاسفة على قدم الفاعلية إنما يدل على أنه لم يزل فاعلا لما يشاء ; لا يدل على قدم فعل معين ولا مفعول معين ; لا الفلك ولا غيره . والغلط إنما نشأ بين الفريقين من اشتباه النوع الدائم بالعين المعينة ثم إن أولئك قالوا : يمتنع قدم نوع الحركة والفعل لامتناع حوادث لا أول لها ; فأبطلوا كون الرب لم يزل متكلما بمشيئته ولم يزل فاعلا بمشيئته ; بل يلزمهم أنه لم يكن قادرا على الفعل ثم صار قادرا ولم يكن أيضا قادرا على الكلام بمشيئته . ثم منهم من يقول : صار قادرا على الكلام بمشيئته بعد أن لم يكن : كالكرامية ; ومنهم من يقول لم يصر قادرا على الكلام ولا يمكنه الكلام بمشيئته قط وهم الكلابية ; ومن وافقهم من الأشعرية والسالمية . وأما " الفلاسفة " فقالوا ما قاله مقدمهم أرسطو . فكل من قال : إن " جنس الحركة " حدثت بعد أن لم تكن فإنه مكابر لعقله وقالوا يمتنع ذلك في جنس الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب حادث والعلم بذلك ضروري . فيقال لهم : هذا يدل على أنه لم يزل هذا النوع موجودا لا يدل على قدم عين حركة الفلك وكذلك القول في الزمان والجسم ; فإن أدلتهم تقتضي أنه لم يزل موجودا : حركة وقدرها وهو الزمان ; وفاعلها هو الذي يسمونه الجسم ; لكن لا يقتضي قدم شيء بعينه . فإذا قيل : إن رب العالمين لم يزل متكلما بمشيئته فاعلا لما يشاء ; كان نوع الفعل لم يزل موجودا وقدره وهو الزمان موجودا ; لكن أرسطو وأتباعه غلطوا حيث ظنوا أنه لا زمان [ إلا ] قدر حركة الفلك وأنه لا حركة فوق الفلك ولا قبله ; فتعين أن تكون حركته أزلية .
[ ص: 302 ] وهذا ضلال منهم عقلا وشرعا . فلا دليل يدل على امتناع حركة فوق الفلك وقبل الفلك ودليلهم على انشقاق الفلك في غاية الفساد كما قد بسط في موضع آخر وكذلك قوله : إنه لا بد لكل حركة من محرك غير متحرك في غاية الفساد كما قد بسط في موضعه . والمقصود هنا التنبيه على أن خلاصة ما عند هؤلاء الذين يقال : إنهم أئمة المعقولات من أئمة الكلام والفلسفة . إنما يدل على قول السلف وأهل السنة المتبعين للكتاب والسنة ; فالأدلة الصحيحة التي عندهم إنما تدل على هذا ولكن التبس عليهم الحق بالباطل ; كما أن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل وما عندهم من الحق موافق ما جاء به الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ; لا يخالف ذلك فالأدلة السمعية التي جاءت بها الأنبياء لا تتناقض ; وكذلك الأدلة الصحيحة العقلية ولا تتناقض السمعيات والعقليات والله أعلم .