وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب بل ولا يستحب إلا في بعض المواضع ويكون المسئول مأمورا بالإعطاء قبل السؤال وإذا كان المؤمنون ليسوا مأمورين بسؤال المخلوقين فالرسول أولى بذلك صلى الله عليه وسلم فإنه أجل قدرا وأغنى بالله عن غيره . فإن فيه ثلاث مفاسد : مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي من نوع الشرك . ومفسدة إيذاء المسئول وهي من نوع ظلم الخلق . [ ص: 191 ] وفيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس . فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة وقد نزه الله رسوله عن ذلك كله . وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بها ينتفعون به كما يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات وإن كان هو ينتفع بدعائهم له فهو أيضا ينتفع بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة فإنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال : { سؤال المخلوقين } من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الداعي إلى ما تفعله أمته من الخيرات فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء . ولهذا لم تجر عبادة السلف بأن يهدوا إليه ثواب الأعمال لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيء . وليس كذلك الأبوان فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره وإنما ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب كما قال في الحديث الصحيح : { ينتفع الوالد بدعاء الولد آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له } . فالنبي صلى الله عليه وسلم - فيما يطلبه من أمته من الدعاء - طلبه طلب أمر وترغيب ليس بطلب سؤال . فمن ذلك أمره لنا بالصلاة والسلام عليه فهذا أمر الله به في القرآن بقوله : { إذا مات ابن صلوا عليه وسلموا تسليما } . والأحاديث عنه في الصلاة والسلام معروفة .
[ ص: 192 ] ومن ذلك أمره بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } وفي صحيح إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة البخاري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } فقد رغب المسلمين في أن يسألوا الله له الوسيلة وبين أن من سألها له حلت له شفاعته يوم القيامة ; كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا فإن الجزاء من جنس العمل . ومن هذا الباب الحديث الذي رواه من قال حين سمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد . حلت له شفاعتي يوم القيامة أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه { استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال لا تنسنا يا أخي من دعائك عمر بن الخطاب } فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من أن عمر أن يدعو له كطلبه أن يصلي عليه ويسلم عليه وأن يسأل الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة وهو كطلبه أن يعمل سائر الصالحات فمقصوده نفع المطلوب منه والإحسان إليه . وهو صلى الله عليه وسلم أيضا ينتفع بتعليمهم الخير وأمرهم به وينتفع أيضا بالخير الذي يفعلونه من الأعمال الصالحة ومن دعائهم له .
[ ص: 193 ] ومن هذا الباب { } رواه قول القائل : إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال ما شئت قال : الربع قال : ما شئت وإن زدت فهو خير لك قال : النصف . قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قال : الثلثين . قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قال : أجعل لك صلاتي كلها . قال : إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك أحمد في مسنده والترمذي وغيرهما . وقد بسط الكلام عليه في ( جواب المسائل البغدادية . فإن هذا كان له دعاء يدعو به فإذا جعل مكان دعائه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته فإنه كلما صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة " آمين ولك بمثله " فدعاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك . ومن ويفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير فهو مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤتم به ليس هذا من السؤال المرجوح . وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك بل هذا هو من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله ورسوله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله . وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع . قال لغيره من الناس : ادع لي - أو لنا - وقصد أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضا بأمره