الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
[ ص: 491 ] سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن nindex.php?page=treesubj&link=28660قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=30282لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر } فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية : بينوا لنا ذلك ؟ .
الحمد لله . nindex.php?page=treesubj&link=28660قوله { nindex.php?page=hadith&LINKID=30282لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر } : مروي بألفاظ أخر كقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=595387يقول الله : يؤذيني ابن آدم . يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار } وفي لفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30282لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر يقلب الليل والنهار } وفي لفظ : { nindex.php?page=hadith&LINKID=3000092يقول ابن آدم يا خيبة الدهر وأنا الدهر } .
[ ص: 492 ] فقد بين سبحانه خلقه للمطر وإنزاله على الأرض فإنه سبب الحياة في الأرض فإنه سبحانه جعل من الماء كل شيء حي ثم قال : { nindex.php?page=tafseer&surano=2859&ayano=24يقلب الله الليل والنهار } إذ تقليبه الليل والنهار : تحويل أحوال العالم بإنزال المطر الذي هو سبب خلق النبات والحيوان والمعدن وذلك سبب تحويل الناس من حال إلى حال المتضمن رفع قوم وخفض آخرين .
ولا يتوهم عاقل أن الله هو الزمان ; فإن الزمان مقدار الحركة . والحركة مقدارها من باب الأعراض والصفات القائمة بغيرها : كالحركة والسكون والسواد والبياض .
ولا يقول عاقل إن خالق العالم هو من باب الأعراض والصفات المفتقرة إلى الجواهر والأعيان فإن الأعراض لا تقوم بنفسها بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به والمفتقر إلى ما يغايره لا يوجد بنفسه بل بذلك الغير فهو محتاج إلى ما به في نفسه من غيره فكيف يكون هو الخالق ؟ .
ثم أن يستغني بنفسه وأن يحتاج إليه ما سواه وهذه صفة الخالق سبحانه فكيف يتوهم أنه من النوع الأول .
[ ص: 493 ] وأهل الإلحاد - القائلون بالوحدة أو الحلول أو الاتحاد - لا يقولون إنه هو الزمان ولا إنه من جنس الأعراض والصفات ; بل يقولون هو مجموع العالم أو حال في مجموع العالم .
فليس في الحديث شبهة لهم لو لم يكن قد بين فيه أنه - سبحانه - مقلب الليل والنهار فكيف وفي نفس الحديث أنه بيده الأمر يقلب الليل والنهار .
إذا تبين هذا : فللناس في الحديث قولان معروفان لأصحاب أحمد وغيرهم .
أحدهما : وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=12074أبي عبيد وأكثر العلماء أن هذا الحديث خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية ومن أشبههم ; فإنهم إذا أصابتهم مصيبة أو منعوا أغراضهم أخذوا يسبون الدهر والزمان يقول أحدهم قبح الله الدهر الذي شتت شملنا ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا .
وكثيرا ما جرى من كلام الشعراء وأمثالهم نحو هذا كقولهم : يا دهر فعلت كذا . وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور ويضيفونها إلى الدهر فيقع السب على الله تعالى ; لأنه هو الذي فعل تلك الأمور وأحدثها والدهر مخلوق له هو الذي يقلبه ويصرفه .
والتقدير : أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور وأنا فعلتها ; فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل وإن أضاف الفعل إلى الدهر فالدهر لا فعل له ; وإنما الفاعل هو الله وحده .
[ ص: 494 ] وهذا كرجل قضى عليه قاض بحق أو أفتاه مفت بحق فجعل يقول : لعن الله من قضى بهذا أو أفتى بهذا ويكون ذلك من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وفتياه فيقع السب عليه وإن كان الساب - لجهله - أضاف الأمر إلى المبلغ في الحقيقة والمبلغ له فعل من التبليغ بخلاف الزمان فإن الله يقلبه ويصرفه .
والقول الثاني : قول نعيم بن حماد وطائفة معه من أهل الحديث والصوفية : إن الدهر من أسماء الله تعالى ومعناه القديم الأزلي .
ورووا في بعض الأدعية : يا دهر يا ديهور يا ديهار وهذا المعنى صحيح ; لأن الله سبحانه هو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء ; فهذا المعنى صحيح إنما النزاع في كونه يسمى دهرا بكل حال .
فقد أجمع المسلمون - وهو مما علم بالعقل الصريح - أن الله سبحانه وتعالى ليس هو الدهر الذي هو الزمان أو ما يجري مجرى الزمان ; فإن الناس متفقون على أن الزمان الذي هو الليل والنهار .
قالوا على مقدار البكرة والعشي في الدنيا ; و [ في ] الآخرة يوم الجمعة يوم المزيد والجنة ليس فيها شمس ولا قمر ; ولكن تعرف الأوقات بأنوار أخر قد روي أنها تظهر من تحت العرش فالزمان هنالك مقدار الحركة التي بها تظهر تلك الأنوار .
[ ص: 495 ] nindex.php?page=treesubj&link=28660وهل وراء ذلك جوهر قائم بنفسه سيال هو الدهر ؟ هذا مما تنازع فيه الناس فأثبته طائفة من المتفلسفة من أصحاب أفلاطون كما أثبتوا الكليات المجردة في الخارج التي تسمى المثل الأفلاطونية والمثل المطلقة ; وأثبتوا الهيولى التي هي مادة مجردة عن الصور وأثبتوا الخلاء جوهرا قائما بنفسه .
وأما جماهير العقلاء من الفلاسفة وغيرهم : فيعلمون أن هذا كله لا حقيقة له في الخارج وإنما هي أمور يقدرها الذهن ويفرضها فيظن الغالطون أن هذا الثابت في الأذهان هو بعينه ثابت في الخارج عن الأذهان كما ظنوا مثل ذلك في الوجود المطلق مع علمهم أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الذهن ; وليس في الخارج إلا شيء معين وهي الأعيان وما يقوم بها من الصفات فلا مكان إلا الجسم أو ما يقوم به ولا زمان إلا مقدار الحركة ولا مادة مجردة عن الصور ; بل ولا مادة مقترنة بها غير الجسم الذي يقوم به الأعراض ولا صورة إلا ما هو عرض قائم بالجسم أو ما هو جسم يقوم به العرض وهذا وأمثاله مبسوط في غير هذا الموضع .
وإنما المقصود التنبيه على ما يتعلق بذلك على وجه الاختصار والله أعلم .
تم الموجود الآن من كتاب توحيد الربوبية ويليه كتاب مجمل اعتقاد السلف