[ ص: 93 ] وقال شيخ الإسلام
تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني - رضي الله عنه ونور ضريحه - : الحمد لله رب العالمين . " قاعدة نافعة في وجوب
nindex.php?page=treesubj&link=28747الاعتصام بالرسالة " وبيان أن
nindex.php?page=treesubj&link=28747_28750السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الضلال والشقاء في مخالفته وأن كل خير في الوجود . إما عام وإما خاص فمنشؤه من جهة الرسول وأن كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة .
والرسالة ضرورية للعباد لا بد لهم منها وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء والرسالة روح العالم ونوره وحياته فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور ؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة ; وهو من الأموات قال الله
[ ص: 94 ] تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=917&ayano=6أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورا يمشي به في الناس . وأما الكافر فميت القلب في الظلمات . وسمى الله تعالى رسالته روحا والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4366&ayano=42وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فذكر هنا الأصلين وهما : الروح والنور فالروح الحياة والنور النور .
وكذلك يضرب الله الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض وبالنار التي يحصل بها النور وهذا كما في قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=1737&ayano=13أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } .
فشبه العلم بالماء المنزل من السماء ; لأن به حياة القلوب كما أن
[ ص: 95 ] بالماء حياة الأبدان وشبه القلوب بالأودية لأنها محل العلم كما أن الأودية محل الماء فقلب يسع علما كثيرا وواد يسع ماء كثيرا وقلب يسع علما قليلا وواد يسع ماء قليلا وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء وأنه يذهب جفاء أي : يرمى به ويخفى والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات فإذا ترابى فيها الحق ثارت فيها تلك الشهوات والشبهات ثم تذهب جفاء ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1737&ayano=13ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل } فهذا المثل الآخر وهو الناري فالأول للحياة والثاني للضياء .
ونظير هذين المثالين : المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=2مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } إلى قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=2أو كصيب من السماء } إلى آخر الآية . وأما الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حي وإن كانت حياته حياة بهيمية فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها سبب الإيمان وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ; فإن
nindex.php?page=treesubj&link=28759_28749الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم وبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه وبيان حالهم بعد الوصول إليه .
[ ص: 96 ] فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه وهي القصص التي قصها على عباده والأمثال التي ضربها لهم .
والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة وبيان ما يحبه الله وما يكرهه .
والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر ; والجنة والنار ; والثواب والعقاب .
وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر والسعادة والفلاح موقوفة عليها ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل ; فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه .
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب ; فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي
[ ص: 97 ] شقاوة لا سعادة معها أبدا فلا فلاح إلا باتباع الرسول فإن الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره كما قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1118&ayano=7فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } أي : لا مفلح إلا هم كما قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=400&ayano=3ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } فخص هؤلاء بالفلاح كما خص المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة وبالهدى والفلاح فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما .
وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء وبعث به جميع الرسل ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل وما صارت إليه عاقبتهم وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة . وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم وكذلك من خسف به ; وأرسل عليه الحجارة من السماء وأغرقه في اليم ; وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به واتخاذهم أولياء من دونه .
وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاءوا به
[ ص: 98 ] واتبع غير سبيلهم ; ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ ; لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم كما قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3403&ayano=29إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3404&ayano=29ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3961&ayano=26ثم دمرنا الآخرين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3962&ayano=37وإنكم لتمرون عليهم مصبحين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3963&ayano=37وبالليل أفلا تعقلون } أي : تمرون عليهم نهارا بالصباح وبالليل ثم قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3963&ayano=2أفلا تعقلون } وقال تعالى في
مدائن قوم لوط : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1891&ayano=15وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1892&ayano=15إن في ذلك لآيات للمتوسمين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1893&ayano=15وإنها لبسبيل مقيم } يعني : مدائنهم بطريق مقيم يراها المار بها . وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3448&ayano=30أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } .
وهذا كثير في الكتاب العزيز : يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أتباع المرسلين ; ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة
موسى وإبراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم ثم يختم القصة بقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2966&ayano=26إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2967&ayano=26وإن ربك لهو العزيز الرحيم } فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة {
nindex.php?page=tafseer&surano=3444&ayano=30وهو العزيز الرحيم } فانتقم من أعدائه بعزته وأنجى رسله وأتباعهم برحمته .
[ ص: 93 ] وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ تيمية الحراني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . " قَاعِدَةٌ نَافِعَةٌ فِي وُجُوبِ
nindex.php?page=treesubj&link=28747الِاعْتِصَامِ بِالرِّسَالَةِ " وَبَيَانِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28747_28750السَّعَادَةَ وَالْهُدَى فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الضَّلَالَ وَالشَّقَاءَ فِي مُخَالَفَتِهِ وَأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ . إمَّا عَامٌّ وَإِمَّا خَاصٌّ فَمَنْشَؤُهُ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ وَأَنَّ كُلَّ شَرٍّ فِي الْعَالَمِ مُخْتَصٌّ بِالْعَبْدِ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ أَوْ الْجَهْلُ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّ سَعَادَةَ الْعِبَادِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمُعَادِهِمْ بِاتِّبَاعِ الرِّسَالَةِ .
وَالرِّسَالَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعِبَادِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا وَحَاجَتُهُمْ إلَيْهَا فَوْقَ حَاجَتِهِمْ إلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالرِّسَالَةُ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ فَأَيُّ صَلَاحٍ لِلْعَالَمِ إذَا عَدِمَ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ وَالنُّورَ ؟ وَالدُّنْيَا مُظْلِمَةٌ مَلْعُونَةٌ إلَّا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مَا لَمْ تُشْرِقْ فِي قَلْبِهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ وَيَنَالُهُ مِنْ حَيَاتِهَا وَرُوحِهَا فَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ ; وَهُوَ مِنْ الْأَمْوَاتِ قَالَ اللَّهُ
[ ص: 94 ] تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=917&ayano=6أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } فَهَذَا وَصْفُ الْمُؤْمِنِ كَانَ مَيِّتًا فِي ظُلْمَةِ الْجَهْلِ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِرُوحِ الرِّسَالَةِ وَنُورِ الْإِيمَانِ وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ فَمَيِّتُ الْقَلْبِ فِي الظُّلُمَاتِ . وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى رِسَالَتَهُ رُوحًا وَالرُّوحُ إذَا عَدِمَ فَقَدْ فُقِدَتْ الْحَيَاةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4366&ayano=42وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } فَذَكَرَ هُنَا الْأَصْلَيْنِ وَهُمَا : الرُّوحُ وَالنُّورُ فَالرُّوحُ الْحَيَاةُ وَالنُّورُ النُّورُ .
وَكَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَهُ حَيَاةً لِلْقُلُوبِ وَنُورًا لَهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يُنَزِّلُهُ مِنْ السَّمَاءِ حَيَاةً لِلْأَرْضِ وَبِالنَّارِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا النُّورُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=1737&ayano=13أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } .
فَشَبَّهَ الْعِلْمَ بِالْمَاءِ الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ بِهِ حَيَاةَ الْقُلُوبِ كَمَا أَنَّ
[ ص: 95 ] بِالْمَاءِ حَيَاةَ الْأَبْدَانِ وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ الْأَوْدِيَةَ مَحَلُّ الْمَاءِ فَقَلْبٌ يَسَعُ عِلْمًا كَثِيرًا وَوَادٍ يَسَعُ مَاءً كَثِيرًا وَقَلْبٌ يَسَعُ عِلْمًا قَلِيلًا وَوَادٍ يَسَعُ مَاءً قَلِيلًا وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلُو عَلَى السَّيْلِ مِنْ الزَّبَدِ بِسَبَبِ مُخَالَطَةِ الْمَاءِ وَأَنَّهُ يَذْهَبُ جُفَاءً أَيْ : يُرْمَى بِهِ وَيُخْفَى وَاَلَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ يَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْتَقِرُّ وَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ تُخَالِطُهَا الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ فَإِذَا ترابى فِيهَا الْحَقُّ ثَارَتْ فِيهَا تِلْكَ الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ ثُمَّ تَذْهَبُ جُفَاءً وَيَسْتَقِرُّ فِيهَا الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَالنَّاسَ وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1737&ayano=13وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } فَهَذَا الْمَثَلُ الْآخَرُ وَهُوَ النَّارِيُّ فَالْأَوَّلُ لِلْحَيَاةِ وَالثَّانِي لِلضِّيَاءِ .
وَنَظِيرُ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ : الْمِثَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=2مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلَى قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=2أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ غَيْرَ حَيٍّ وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ حَيَاةً بَهِيمِيَّةً فَهُوَ عَادِمُ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي سَبَّبَهَا سَبَبُ الْإِيمَانِ وَبِهَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28759_28749اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرُّسُلَ وَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي تَعْرِيفِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ وَتَكْمِيلُ مَا يُصْلِحُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمُعَادِهِمْ وَبُعِثُوا جَمِيعًا بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَتَعْرِيفِ الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إلَيْهِ وَبَيَانِ حَالِهِمْ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ .
[ ص: 96 ] فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقَدْرِ وَذِكْرِ أَيَّامِ اللَّهِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَهِيَ الْقِصَصُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى عِبَادِهِ وَالْأَمْثَالُ الَّتِي ضَرَبَهَا لَهُمْ .
وَالْأَصْلُ الثَّانِي يَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ الشَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ وَبَيَانِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ .
وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ; وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ; وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ .
وَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ مَدَارُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهَا وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ ; فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي إلَى تَفَاصِيلِهَا وَمَعْرِفَةِ حَقَائِقِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ يُدْرِكُ وَجْهَ الضَّرُورَةِ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُدْرِكُ وَجْهَ الْحَاجَةِ إلَى الطِّبِّ وَمَنْ يُدَاوِيه وَلَا يَهْتَدِي إلَى تَفَاصِيلِ الْمَرَضِ وَتَنْزِيلِ الدَّوَاءِ عَلَيْهِ .
وَحَاجَةُ الْعَبْدِ إلَى الرِّسَالَةِ أَعْظَمُ بِكَثِيرِ مِنْ حَاجَةِ الْمَرِيضِ إلَى الطِّبِّ ; فَإِنَّ آخِرَ مَا يُقَدَّرُ بِعَدَمِ الطَّبِيبِ مَوْتُ الْأَبْدَانِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْعَبْدِ نُورُ الرِّسَالَةِ وَحَيَاتِهَا مَاتَ قَلْبُهُ مَوْتًا لَا تُرْجَى الْحَيَاةُ مَعَهُ أَبَدًا أَوْ شَقِيَ
[ ص: 97 ] شَقَاوَةً لَا سَعَادَةَ مَعَهَا أَبَدًا فَلَا فَلَاحَ إلَّا بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ فَإِنَّ اللَّهَ خَصَّ بِالْفَلَاحِ أَتْبَاعَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْصَارَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1118&ayano=7فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أَيْ : لَا مُفْلِحَ إلَّا هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=400&ayano=3وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْفَلَاحِ كَمَا خَصَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمْ وَيُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَى رَسُولِهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَيُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَبِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْهُدَى وَالْفَلَاحَ دَائِرٌ حَوْلَ رُبُعِ الرِّسَالَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا .
وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ السَّمَاءِ وَبُعِثَ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ وَلِهَذَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا أَخْبَارَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ وَمَا صَارَتْ إلَيْهِ عَاقِبَتُهُمْ وَأَبْقَى آثَارَهُمْ وَدِيَارَهُمْ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَمَوْعِظَةً . وَكَذَلِكَ مَسَخَ مَنْ مَسَخَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَكَذَلِكَ مَنْ خَسَفَ بِهِ ; وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ مِنْ السَّمَاءِ وَأَغْرَقَهُ فِي الْيَمِّ ; وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الصَّيْحَةَ وَأَخَذَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ لِلرُّسُلِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَمَّا جَاءُوا بِهِ وَاِتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ .
وَهَذِهِ سُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ فِيمَنْ خَالَفَ رُسُلَهُ وَأَعْرَضَ عَمَّا جَاءُوا بِهِ
[ ص: 98 ] وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ ; وَلِهَذَا أَبْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ آثَارَ الْمُكَذِّبِينَ لِنَعْتَبِرَ بِهَا وَنَتَّعِظَ ; لِئَلَّا نَفْعَلَ كَمَا فَعَلُوا فَيُصِيبُنَا مَا أَصَابَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3403&ayano=29إنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3404&ayano=29وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3961&ayano=26ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3962&ayano=37وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3963&ayano=37وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أَيْ : تَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ نَهَارًا بِالصَّبَاحِ وَبِاللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3963&ayano=2أَفَلَا تَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي
مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1891&ayano=15وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1892&ayano=15إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1893&ayano=15وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } يَعْنِي : مَدَائِنَهُمْ بِطْرِيقٍ مُقِيمٍ يَرَاهَا الْمَارُّ بِهَا . وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3448&ayano=30أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } .
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَاب الْعَزِيزِ : يُخْبِرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ إهْلَاكِ الْمُخَالِفِينَ لِلرُّسُلِ وَنَجَاةِ أَتْبَاعِ الْمُرْسَلِينَ ; وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ قِصَّةَ
مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَيَذْكُرُ لِكُلِّ نَبِيٍّ إهْلَاكَهُ لِمُكَذِّبِيهِمْ وَالنَّجَاةَ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ ثُمَّ يَخْتِمُ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2966&ayano=26إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2967&ayano=26وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فَخَتَمَ الْقِصَّةَ بِاسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَقْتَضِيهَا تِلْكَ الصِّفَةُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=3444&ayano=30وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فَانْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ بِعِزَّتِهِ وَأَنْجَى رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ .