الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والرسول صلى الله عليه وسلم قد أتى بالآيات البينات الدالة على [ ص: 417 ] صدقه والقرآن فيه الآيات المحكمات اللاتي هي أم الكتاب قد علم معناها وعلم أنها حق وبذلك يهتدي الخلق وينتفعون .

                فمن اتبع المتشابه ابتغى الفتنة وابتغى تأويله والأول قصدهم فيه فاسد والثاني ليسوا من أهله بل يتكلمون في تأويله بما يفسد معناه إذ كانوا ليسوا من الراسخين في العلم .

                وإنما الراسخ في العلم الذي رسخ في العلم بمعنى المحكم وصار ثابتا فيه لا يشك ولا يرتاب فيه بما يعارضه من المتشابه بل هو مؤمن به قد يعلمون تأويل المتشابه .

                وأما من لم يرسخ في ذلك بل إذا عارضه المتشابه شك فيه فهذا يجوز أن يراد بالمتشابه ما يناقض المحكم فلا يعلم معنى المتشابه إذ لم يرسخ في العلم بالمحكم . وهو يبتغي الفتنة في هذا وهذا . فهذا يعاقب عقوبة تردعه كما فعل عمر بصبيغ .

                وأما من قصده الهدى والحق فليس من هؤلاء . وقد كان عمر يسأل ويسأل عن معاني الآيات الدقيقة وقد سأل أصحابه عن قوله { إذا جاء نصر الله والفتح } فذكروا ظاهر لفظها . ولما فسرها ابن عباس بأنها إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته قال : ما أعلم منها إلا ما تعلم .

                [ ص: 418 ] وهذا باطن الآية الموافق لظاهرها . فإنه لما أمر بالاستغفار عند ظهور الدين والاستغفار يؤمر به عند ختام الأعمال وبظهور الدين حصل مقصود الرسالة علموا أنه إعلام بقرب الأجل مع أمور أخر وفوق كل ذي علم عليم .

                والاستدلال على الشيء بملزوماته . والشيء قد يكون له لازم وللازمه لازم وهلم جرا . فمن الناس من يكون أفطن بمعرفة اللوازم من غيره يستدل بالملزوم على اللازم . ومن الناس من لا يتصور اللازم ولو تصوره لم يعرف الملزوم بل يقول : يجوز أن يلزم ويجوز أن لا يلزم ; ويحتمل ويحتمل . وتردد الاحتمال هو من عدم العلم وإلا فالواقع هو أحد أمرين . فحيث كان احتمال بلا ترجيح كان لعدم العلم بالواقع وخفاء دليله وغيره قد يعلم ذلك ويعلم دليله .

                ومن ظن أن ما لا يعلمه هو لا يعلمه غيره كان من جهله . فلا ينفي عن الناس إلا ما علم انتفاؤه عنهم وفوق كل ذي علم عليم أعلم منه حتى ينتهي الأمر إلى الله تعالى . وهذا قد بسط في مواضع .

                ثم إنهم يقولون : المأثور عن السلف هو السكوت عن الخوض في [ ص: 419 ] تأويل ذلك والمصير إلى الإيمان بظاهره والوقوف عن تفسيره لأنا قد نهينا أن نقول في كتاب الله برأينا ولم ينبهنا الله ورسوله على حقيقة معنى ذلك .

                فيقال : أما كون الرجل يسكت عما لا يعلم فهذا مما يؤمر به كل أحد . لكن هذا الكلام يقتضي أنهم لم يعلموا معنى الآية وتفسيرها وتأويلها . وإذا كان لم يتبين لهم فمضمونه عدم علمهم بذلك وهو كلام شاك لا يعلم ما أريد بالآية .

                ثم إذا ذكر لهم بعض التأويلات كتأويل من يفسره بإتيان أمره وقدرته أبطلوا ذلك بأن هذا يسقط فائدة التخصيص . وهذا نفي للتأويل وإبطال له .

                فإذا قالوا مع ذلك ولا يعلم تأويله إلا الله أثبتوا تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون جنس التأويل .

                ونقول ما الحامل على هذا التأويل البعيد ؟ وقد أمكن بدونه أن نثبت إتيانا ومجيئا لا يعقل كما يليق به كما أثبتنا ذاتا لها حقيقة لا تعقل وصفات من سمع وبصر وغير ذلك لا تعقل . ولأنه إذا جاز تأويل هذا وأن نقدر مضمرا محذوفا من قدرة أو عذاب ونحو ذلك فما منعكم من تأويل قوله " ترون ربكم " كذلك ؟ .

                [ ص: 420 ] وهذا كلام في إبطال التأويل وحمل للفظ على ما دل عليه ظاهره على ما يليق بجلال الله .

                فإذا قيل مع هذا : إن له تأويلا لا يعلمه إلا الله وأريد بالتأويل هذا الجنس كان تناقضا . كيف ينفي جنس التأويل ويثبت له تأويلا لا يعلمه إلا الله .

                فعلم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله لا يناقض حمله على ما دل عليه اللفظ بل هو أمر آخر يحقق هذا ويوافقه لا يناقضه ويخالفه كما قال مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول .

                وإذا كان كذلك أمكن أن من العلماء من يعلم من معنى الآية ما يوافق القرآن لم يعلمه غيره ويكون ذلك من تفسيرها . وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم كمن يعلم أن المراد بالآية مجيء الله قطعا لا شك في ذلك لكثرة ما دل عنده على ذلك . ويعلم مع ذلك أنه العلي الأعلى يأتي إتيانا تكون المخلوقات محيطة به وهو تحتها . فإن هذا مناقض لكونه العلي الأعلى .

                والجد الأعلى أبو عبد الله رحمه الله قد جرى في تفسيره على ما ذكر من الطريقة . وهذه عادته وعادات غيره .

                [ ص: 421 ] وذكر كلام ابن الزاغوني فقال قال الشيخ علي بن عبيد الله الزاغوني : وقد اختلف كلام إمامنا أحمد في هذا المجيء هل يحمل على ظاهره وهل يدخل التأويل ؟ على روايتين .

                إحداهما أنه يحمل على ظاهره من مجيء ذاته . فعلى هذا يقول : لا يدخل التأويل إلا أنه لا يجب أن يحمل مجيئه بذاته إلا على ما يليق به . وقد ثبت أنه لا يحمل إثبات مجيء هو زوال وانتقال يوجب فراغ مكان وشغل آخر من جهة أن هذا يعرف بالجنس في حق المحدث الذي يقصر عن استيعاب المواضع والمواطن لأنها أكبر منه وأعظم يفتقر مجيئه إليها إلى الانتقال عما قرب إلى ما بعد .

                وذلك ممتنع في حق الباري تعالى لأنه لا شيء أعظم منه ولا يحتاج في مجيئه إلى انتقال وزوال لأن داعي ذلك وموجبه لا يوجد في حقه . فأثبتنا المجيء صفة له ومنعنا ما يتوهم في حقه ما يلزم في حق المخلوقين لاختلافهما في الحاجة إلى ذلك . ومثله قوله { وجاء ربك والملك صفا صفا } .

                ومثله الحديث المشهور الذي رواه عامة الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث [ ص: 422 ] الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له } . فنحن نثبت وصفه بالنزول إلى سماء الدنيا بالحديث ولا نتأول ما ذكروه ولا نلحقه بنزول الآدميين الذي هو زوال وانتقال من علو إلى أسفل بل نسلم للنقل كما ورد وندفع التشبيه لعدم موجبه . ونمنع من التأويل لارتفاع نسبته .

                قال : وهذه الرواية هي المشهورة والمعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا .

                ( قلت : أما كون إتيانه ومجيئه ونزوله ليس مثل إتيان المخلوق ومجيئه ونزوله فهذا أمر ضروري متفق عليه بين علماء السنة ومن له عقل . فإن الصفات والأفعال تتبع الذات المتصفة الفاعلة . فإذا كانت ذاته مباينة لسائر الذوات ليست مثلها لزم ضرورة أن تكون صفاته مباينة لسائر الصفات ليست مثلها . ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفة كل موصوف إلى ذاته . ولا ريب أنه العلي الأعلى العظيم فهو أعلى من كل شيء وأعظم من كل شيء . فلا يكون نزوله وإتيانه بحيث تكون المخلوقات تحيط به أو تكون أعظم منه وأكبر هذا ممتنع .

                وأما لفظ " الزوال " و " الانتقال " فهذا اللفظ مجمل ولهذا كان [ ص: 423 ] أهل الحديث والسنة فيه على أقوال .

                فعثمان بن سعيد الدارمي وغيره أنكروا على الجهمية قولهم : إنه لا يتحرك وذكروا أثرا أنه لا يزول وفسروا الزوال بالحركة . فبين عثمان بن سعيد أن ذلك الأثر إن كان صحيحا لم يكن حجة لهم لأنه في تفسير قوله { الحي القيوم } ذكروا عن ثابت : دائم باق لا يزول عما يستحقه كما قال ابن إسحاق . لا يزول عن مكانته .

                ( قلت : والكلبي بنفسه الذي روى هذا الحديث هو يقول : { استوى على العرش } استقر ويقول : { ثم استوى إلى السماء } صعد إلى السماء .

                وأما " الانتقال " فابن حامد وطائفة يقولون : ينزل بحركة وانتقال . وآخرون من أهل السنة كالتميمي من أصحاب أحمد أنكروا هذا وقالوا : بل ينزل بلا حركة وانتقال . وطائفة ثالثة كابن بطة وغيره يقفون في هذا .

                وقد ذكر الأقوال الثلاثة القاضي أبو يعلى في كتاب " اختلاف الروايتين والوجهين ونفي اللفظ بمجمله " .

                والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص فيثبت ما [ ص: 424 ] أثبت الله ورسوله باللفظ الذي أثبته وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه . وهو أن يثبت النزول والإتيان والمجيء ; وينفي المثل والسمي والكفؤ والند .

                وبهذا يحتج البخاري وغيره على نفي المثل . يقال : ينزل نزولا ليس كمثله شيء نزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين نزولا يختص به كما أنه في ذلك وفي سائر ما وصف به نفسه ليس كمثله شيء في ذلك . وهو منزه أن يكون نزوله كنزول المخلوقين وحركتهم وانتقالهم وزوالهم مطلقا لا نزول الآدميين ولا غيرهم .

                فالمخلوق إذا نزل من علو إلى سفل زال وصفه بالعلو وتبدل إلى وصفه بالسفول وصار غيره أعلى منه .

                والرب تعالى لا يكون شيء أعلى منه قط بل هو العلي الأعلى ولا يزال هو العلي الأعلى مع أنه يقرب إلى عباده ويدنو منهم وينزل إلى حيث شاء ويأتي كما شاء . وهو في ذلك العلي الأعلى الكبير المتعالي علي في دنوه قريب في علوه .

                فهذا وإن لم يتصف به غيره فلعجز المخلوق أن يجمع بين هذا وهذا . كما يعجز أن يكون هو الأول والآخر والظاهر والباطن .

                [ ص: 425 ] ولهذا قيل لأبي سعيد الخراز بم عرفت الله ؟ قال : " بالجمع بين النقيضين " . وأراد أنه يجتمع له ما يتناقض في حق الخلق كما اجتمع له أنه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها من الأعيان والأفعال مع ما فيها من الخبث وأنه عدل حكيم رحيم . وأنه يمكن من مكنه من عباده من المعاصي مع قدرته على منعهم وهو في ذلك حكيم عادل . فإنه أعلم الأعلمين وأحكم الحاكمين وخير الفاتحين ; يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم .

                فأن لا يحيطوا علما بما هو أعظم في ذلك أولى وأحرى . وقد سألوا عن الروح فقيل لهم { الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } . وفي الصحيحين { أن الخضر قال لموسى لما نقر عصفور في البحر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر } .

                فالذي ينفى عنه وينزه عنه إما أن يكون مناقضا لما علم من صفاته الكاملة فهذا ينفى عنه جنسه كما قال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } وقال { وتوكل على الحي الذي لا يموت } . فجنس السنة والنوم والموت ممتنع عليه لا يجوز أن يقال في شيء من هذا " إنه يجوز عليه كما يليق بشأنه " لأن هذا الجنس يوجب نقصا [ في ] كماله .

                [ ص: 426 ] وكذلك لا يجوز أن يقال : هو يكون في السفل لا في العلو وهو سفول يليق بجلاله . فإنه سبحانه العلي الأعلى لا يكون قط إلا عاليا والسفول نقص هو منزه عنه .

                وقوله " وأنت الباطن فليس دونك شيء " لا يقتضي السفول إلا عند جاهل لا يعلم حقيقة العلو والسفول فيظن أن السموات وما فيها قد تكون تحت الأرض إما بالليل وإما بالنهار . وهذا غلط كمن يظن أن ما في السماء من المشرق يكون تحت ما فيها مما في المغرب . فهذا أيضا غلط . بل السماء لا تكون قط إلا عالية على الأرض وإن كان الفلك مستديرا محيطا بالأرض فهو العالي على الأرض علوا حقيقيا من كل جهة . وهذا مبسوط في مواضع .

                والنوع الثاني : أنه منزه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته فالألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة في الإثبات تثبت والتي جاءت بالنفي تنفي . والألفاظ المجملة كلفظ " الحركة " و " النزول " و " الانتقال " يجب أن يقال فيها : إنه منزه عن مماثلة المخلوقين من كل وجه لا يماثل المخلوق لا في نزول ولا في حركة ولا انتقال ولا زوال ولا غير ذلك .

                وأما إثبات هذا الجنس كلفظ " النزول " أو نفيه [ ص: 427 ] مطلقا كلفظ " النوم " و " الموت " فقد يسلك كلاهما طائفة تنتسب إلى السنة .

                والمثبتة يقولون : نثبت حركة أو حركة وانتقالا أو حركة وزوالا تليق به كالنزول والإتيان اللائق به .

                والنفاة يقولون : بل هذا الجنس يجب نفيه .

                ثم منهم من ينفي جنس ذلك في حقه بكل اعتبار ولا يجوز عليه أن يقوم به شيء من الأحوال المتجددة . وهذه طريقة الكلابية ومن اتبعهم ممن ينتسب إلى السنة والحديث .

                ومنهم من لا ينفي في ذلك ما دل عليه النص ولا ينفي هذا الجنس مطلقا بما ذكروه من أنه لا تقوم به الحوادث لما قد علم بالآيات والسنة والعقل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وأنه يحب عبده المؤمن إذا اتبع رسوله إلى غير ذلك من المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة . بل ينفي ما ناقض صفات كماله وينفي مماثلة مخلوق له . فهذان هما اللذان يجب نفيهما والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية