وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
وأعانهم على ذلك : ما اعتقدوه من مذاهب الجهمية وأتباعهم الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى إنما كان من جنس الإلهام وأن العبد قد يرى الله في الدنيا إذا زال عن عينه المانع إذ لا حجاب عندهم للرؤية منفصل عن العبد وإنما الحجاب متصل به ; فإذا ارتفع شاهد الحق .وهم لا يشاهدون إلا ما يتمثلونه من الوجود المطلق الذي لا حقيقة له إلا في أذهانهم أو من الوجود المخلوق . فيكون الرب المشهود عندهم - الذي [ ص: 230 ] يخاطبهم في زعمهم - لا وجود له إلا في أذهانهم أو لا وجود له إلا وجود المخلوقات ; وهذا هو التعطيل للرب تعالى ولكتبه ولرسله والبدع دهليز الكفر والنفاق كما أن التشيع دهليز الرفض والرفض دهليز القرمطة والتعطيل فالكلام الذي فيه تجهم هو دهليز التجهم والتجهم دهليز الزندقة والتعطيل .
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وأنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه . أن الله يرى في الآخرة
وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه كلام معروف لعائشة وابن عباس فعائشة أنكرت الرؤية وابن عباس ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال : رأى محمد ربه بفؤاده مرتين ' وكذلك ذكر أحمد عن وغيره أنه أثبت رؤيته بفؤاده وهذا المنصوص عن أبي ذر ابن عباس وغيرهما هو المنصوص عن وأبي ذر أحمد وغيره من أئمة السنة ولم يثبت عن أحد منهم إثبات الرؤية بالعين في الدنيا كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة .
ولكن كلا القولين تقول به طوائف من الجهمية فالنفي يقول به متكلمة الجهمية والإثبات يقول به بعض متصوفة الجهمية كالاتحادية وطائفة من غيرهم وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات كما يقول ابن سبعين : عين ما ترى ذات لا ترى وذات لا ترى عين ما ترى . ونحو ذلك لأن [ ص: 231 ] مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين فهم يقولون في عموم الكائنات ما قالته النصارى في المسيح ولهذا تنوعوا في ذلك تنوع النصارى في المسيح .
ومن الأنواع التي في دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه فإن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي ولا غيره من المشايخ المعروفين بل الرجل أجل قدرا وأعظم إيمانا من أن يفتري هذا الكفر الصريح ولكن أخطأ شبرا ففرعوا على خطئه ما صار كفرا .
وأعظم من ذلك : زعمهم أن الأولياء والرسل من حيث ولايتهم تابعون لخاتم الأولياء وآخذون من مشكاته فهذا باطل بالعقل والدين فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر والرسل لا يأخذون من غيرهم .
وأعظم من ذلك : أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله الذي هو أشرف علومهم وأظهر من ذلك أنه جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود القائلين بأن وجود المخلوق : هو عين وجود الخالق .
فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح درجة بعد درجة : واستشهاده على تفضيل غير النبي عليه بقصة عمر وتأبير النخل فهل يقول مسلم إن عمر كان أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم برأيه في الأسرى ؟ أو أن الفلاحين الذين يحسنون صناعة التأبير أفضل من الأنبياء في ذلك ؟ ثم ما قنع بذلك حتى قال : فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل علم وكل مرتبة وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله هنالك مطلبهم .
[ ص: 232 ] فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن تقدمه عليه بالعلم بالله وتقدم خاتم الأنبياء عليه بالتشريع فقط ; وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة وغالية المتصوفة وغالية المتكلمة الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل كالعلم بالله ونحو ذلك وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم .
وقد يقولون : إن الشرائع قوانين عدلية وضعت لمصلحة الدنيا فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة : فيفضلون فيها أنفسهم وطرقهم على الأنبياء وطرق الأنبياء .
وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين : أن هذا من أعظم الكفر والضلال وكان ذلك من سبب جحد حقائق ما أخبرت به الرسل من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وزعمهم أن ما يقوله هؤلاء في هذا الباب هو الحق . وصاروا في أخبار الرسل تارة يكذبونها وتارة يحرفونها وتارة يفوضونها وتارة يزعمون أن الرسل كذبوا لمصلحة العموم .
ثم عامة الذين يقولون هذه المقالات : يفضلون الأنبياء والرسل على أنفسهم إلا الغالية منهم كما تقدم فهؤلاء من شر الناس قولا واعتقادا .
وقد كان عندنا شيخ من أجهل الناس كان يعظمه طائفة من الأعاجم ويقال إنه خاتم الأولياء ; يزعم أنه يفسر العلم بوجهين وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فسره بوجه واحد وأنه هو أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 233 ] وهذا تلقاه من صاحب الفصوص وأمثال هذا في هذه الأوقات كثيرون وسبب ضلال المتفلسفة : وأهل التصوف والكلام : الموافقة لضلالهم وليس هذا موضع الإطناب في بيان ضلال هذا وإنما الغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص وأمثاله قالوا قول هؤلاء .
فأما كفر من يفضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم - كما ذكر صاحب الفصوص - فظاهر ; ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك ; ولكن يرى أن له طريقا إلى الله غير اتباع الرسول ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول ويحتجون بقصة موسى والخضر .
ولا حجة فيها لوجهين
( أحدهما ) أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل ولهذا جاء في الحديث الصحيح : { موسى لما سلم على الخضر قال : وأنى بأرضك السلام ؟ قال أنا موسى قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال نعم قال : إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه } . أن
ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم { } وقال : { فضلنا على الناس بخمس : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى [ ص: 234 ] الناس عامة } وقد قال تعالى : { أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا } وقال تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } الآية .
فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين : إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم ملوكهم وزهادهم الأولياء منهم وغير الأولياء فليس لأحد الخروج عن متابعته باطنا وظاهرا ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل لا في العلوم ولا الأعمال وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى وأما موسى فلم يكن مبعوثا إلى الخضر .
( الثاني ) أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك ولو كان مخالفا لشريعته لم يوافقه بحال .
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع فإن خرق السفينة مضمونه أن المال المعصوم يجور للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه ; فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية كما جاز للراعي - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - أن يذبح الشاة ; التي خاف عليها الموت وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل ولهذا قال ابن عباس لنجدة : وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر [ ص: 235 ] من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم . وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة إذا كان لذرية قوم صالحين .
( الوجه الثامن ) أنه قال : ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط إلى آخر كلامه وهو متضمن أن العلم نوعان :
( أحدهما ) علم الشريعة وهو يأخذ عن الله كما يأخذ النبي فإنه قال : والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا .
وهذا الذي زعمه - من أن الولي يأخذ عن الله في السر ما يتبع فيه الرسل كأئمة العلماء مع أتباعهم - فيه من الإلحاد ما لا يخفى على من يؤمن بالله ورسله فإن هذا يدعي أنه أوتي مثل ما أوتي رسل الله ويقول إنه أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ويجعل الرسل بمنزلة معلمي الطب والحساب والنحو وغير ذلك ; إذا عرف المتعلم الدليل الذي قال به معلمه فينبغي موافقته له لمشاركته له في العلم لا لأنه رسول وواسطة من الله إليه في تبليغ الأمر والنهي .
وهذا الكفر يشبه كفر مسيلمة الكذاب ونحوه ممن يدعي أنه مشارك للرسول في الرسالة وكان يقول مؤذنه أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله .
[ ص: 236 ] ( والنوع الثاني ) علم الحقيقة وهو فيه فوق الرسول كما قال : هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول فقد ادعى أن هذا العلم الذي هو موضع اللبنة الذهبية - وهو علم الباطن والحقيقة - هو فيه فوق الرسول لأنه يأخذه من حيث يأخذ الملك العلم الذي يوحي به إلى الرسول والرسول يأخذه من الملك وهو يأخذه من فوق الملك من حيث يأخذه الملك وهذا فوق دعوى مسيلمة الكذاب فإن مسيلمة لم يدع أنه أعلى من الرسول في علم من العلوم الإلهية وهذا ادعى أنه فوقه في العلم بالله .
ثم قال : فإن فهمت ما أشرت به : فقد حصل لك العلم النافع . ومعلوم أن هذا الكفر فوق كفر اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى لا ترضى أن تجعل أحدا من المؤمنين فوق موسى وعيسى وهذا يزعم أنه هو وأمثاله ممن يدعي أنه خاتم الأولياء أنه فوق جميع الرسل وأعلم بالله من جميع الرسل وعقلاء الفلاسفة لا يرضون بهذا وإنما يقول مثل هذا غلاتهم وأهل الحمق منهم الذين هم من أبعد الناس عن العقل والدين .
( التاسع ) قوله : فكل نبي من لدن آدم - إلى آخر الفصل - تضمن أن جميع الأنبياء والرسل لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم النبيين ليوطن لنفسه بذلك أن جميع الأنبياء : لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم الأولياء [ ص: 237 ] وكلاهما ضلال فإن الرسل ليس منهم أحد يأخذ من آخر إلا من كان مأمورا باتباع شريعته كأنبياء بني إسرائيل والرسل الذين بعثوا فيهم الذين أمروا باتباع التوراة كما قال تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } الآية .
وأما إبراهيم : فلم يأخذ عن موسى وعيسى . ونوح : لم يأخذ عن إبراهيم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى : لم يأخذوا عن محمد وإن بشروا به وآمنوا به كما قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة } الآية . قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه .
( العاشر ) قوله : فإنه بحقيقته موجود وهو قوله : { وآدم بين الماء والطين } بخلاف غيره من الأنبياء وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين : كذب واضح مخالف لإجماع أئمة الدين وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد . كنت نبيا
فإن الله علم الأشياء وقدرها قبل أن يكونها ولا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم ولم تكن حقيقته صلى الله عليه وسلم موجودة قبل أن يخلق إلا كما كانت حقيقة غيره بمعنى أن الله علمها وقدرها .
لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورا أعظم من غيره فإنه كان مكتوبا [ ص: 238 ] في التوراة والإنجيل وقبل ذلك كما روى في مسنده عن الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العرباض بن سارية آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي رأت حين ولدتني كأنه خرج منها نورا أضاءت له قصور الشام } . إني لعبد الله مكتوب خاتم النبيين وإن
وحديث ميسرة الفجر : { وآدم بين الروح والجسد } وهذا لفظ الحديث . قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ وفي لفظ متى كتبت نبيا ؟ قال :
وأما قوله : { وآدم بين الماء والطين } فلا أصل له لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بهذا اللفظ وهو باطل فإنه لم يكن بين الماء والطين إذ الطين ماء وتراب ولكن لما خلق الله جسد كنت نبيا آدم قبل نفخ الروح فيه : كتب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقدرها كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : { } وروي أنه كتب اسمه على ساق العرش ومصاريع الجنة . فأين الكتاب والتقدير من وجود الحقيقة ؟ . إن خلق أحدكم يجعل في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال : اكتب رزقه وعمله وأجله وشقيا أو سعيدا ثم ينفخ فيه الروح
وما يروى في هذا الباب من الأحاديث : هو من هذا الجنس مثل كونه كان نورا يسبح حول العرش أو كوكبا يطلع في السماء ونحو ذلك كما ذكره [ ص: 239 ] - صاحب ابن حمويه ابن عربي - وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين وابن سبعين وأمثالهم ممن يروي الموضوعات المكذوبات باتفاق أهل المعرفة بالحديث .
فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب حتى أنه اجتمع بي قديما شيخ معظم من أصحاب يسميه أصحابه سلطان الأقطاب وتفاوضنا في كتاب الفصوص وكان معظما له ولصاحبه ; حتى أبديت له بعض ما فيه فهاله ذلك وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث فبينت له أن هذا كله كذب . ابن حمويه
( الحادي عشر ) قوله : وخاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين - إلى قوله - فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية كنسبة الأولياء والرسل معه - إلى آخر الكلام - ذكر فيه ما تقدم من كون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الختم المدعى كسائر الأنبياء والرسل معه يأخذ من مشكاته العلم بالله الذي هو أعلى العلم وهو وحدة الوجود أنه مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة . فعين حالا خاصا ما عمم - إلى قوله - ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص .
فكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : أنه قال : أنا سيد ولد آدم في الشفاعة خاصة وألحد وافترى من حيث زعم أنه سيد في الشفاعة فقط لا في بقية المراتب ; بخلاف الختم المفترى فإنه سيد في العلم بالله وغير ذلك من المقامات .
[ ص: 240 ] ولقد كنت أقول : لو كان المخاطب لنا من يفضل إبراهيم أو موسى أو عيسى على محمد صلى الله عليه وسلم : لكانت مصيبة عظيمة لا يحتملها المسلمون فكيف بمن يفضل رجلا من أمة محمد على محمد وعلى جميع الأنبياء والرسل في أفضل العلوم ويدعي أنهم يأخذون ذلك من مشكاته ؟ وهذا العلم هو غاية الإلحاد والزندقة .
وهذا المفضل من أضل بني آدم وأبعدهم عن الصراط المستقيم وإن كان له كلام كثير ومصنفات متعددة وله معرفة بأشياء كثيرة وله استحواذ على قلوب طوائف من أصناف المتفلسفة والمتصوفة والمتكلمة والمتفقهة والعامة فإن هذا الكلام من أعظم الكلام ضلالا عند أهل العلم والإيمان والله أعلم .
وقد تبين أن في هذا الكلام من الكفر والتنقيص بالرسل والاستخفاف بهم والغض منهم ; بل والكفر بهم وبما جاءوا به : ما لا يخفى على مؤمن وقد حدثني أحد أعيان الفضلاء : أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري - رحمة الله عليه - يقول : رأيت ابن عربي - وهو شيخ نجس - يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله . ولقد صدق فيما قال ; ولكن هذا بعض الأنواع التي ذكرها من الكفر .
وكذلك قول أبي محمد بن عبد السلام : هو شيخ سوء مقبوح كذاب [ ص: 241 ] يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا - هو حق عنه ; لكنه بعض أنواع ما ذكره من الكفر ; فإن قوله : لم يكن قد تبين له حاله وتحقق وإلا فليس عنده رب وعالم كما تقوله الفلاسفة الإلهيون الذين يقولون بواجب الوجود ; وبالعالم الممكن ; بل عنده وجود العالم هو وجود الله وهذا يطابق قول الدهرية الطبائعية الذين ينكرون وجود الصانع مطلقا ولا يقرون بوجود واجب غير العالم .
كما ذكر الله عن فرعون وذويه ; وقوله مطابق لقول فرعون لكن فرعون لم يكن مقرا بالله وهؤلاء يقرون بالله ولكن يفسرونه بالوجود الذي أقر به فرعون فهم أجهل من فرعون وأضل ; وفرعون أكفر منهم : إذ في كفره من العناد والاستكبار ما ليس في كفرهم كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وقال له موسى : { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } .