[ ص: 111 ] المسئول من إحسان شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين - أثابه الله الجنة - أن يفتينا في رجلين تشاجرا في هذين البيتين المذكورين ; وهما قول القائل : -
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف ؟ إن قلت عبد فذاك ميت
أو قلت رب أنى يكلف
فقال أحد الرجلين : هذا القول كفر ; فإن القائل جعل الرب والعبد حقا واحدا ليس بينهما فرق وأبطل التكليف . فقال له الرجل الثاني : ما فهمت المعنى ورميت القائل بما لم يعتقده ويقصده فإن القائل قال : الرب حق والعبد حق ; أي الرب حق في ربوبيته والعبد حق في عبوديته فلا الرب عبدا ولا العبد ربا كما زعمت .
ثم قال : -
يا ليت شعري من المكلف ؟
مع علمه أن التكليف حق . فحار لمن ينسبه في القيام به فقال : إن قلت عبد فذاك ميت . والميت : ليس له من نفسه حركة ; بل من غيره يقلبه كما يشاء وكذلك العبد - وإن كان
[ ص: 112 ] حيا - فإنه مع ربه : كالميت مع الغاسل ليس له من نفسه فعل بغير الله لأنه سبحانه لو لم يقو العبد على القيام بالتكليف : لما قدر على ذلك . فالفعل لله حقيقة . وللعبد مجازا ودليل ذلك قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ; أي لا حول عن المعصية ولا قوة على الطاعة : إلا بالله .
وقد علم أن الرب ليس عليه تكليف لأنه لا مكلف له والعبد ليس يقوم بما كلف به إلا بالله والتكليف حق .
فتعجب القائل عند شهوده لهذه الحال وحار في ذلك مع الإقرار به وأنه على العبد حق فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه بل التقصير من الفهم القصير فمع أيهما الحق ؟
[ ص: 111 ] الْمَسْئُولُ مِنْ إحْسَانِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيِّ الدِّينِ - أَثَابَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ - أَنْ يُفْتِيَنَا فِي رَجُلَيْنِ تَشَاجَرَا فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ; وَهُمَا قَوْلُ الْقَائِلِ : -
الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ ؟ إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ
أَوْ قُلْت رَبٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ
فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ : هَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ ; فَإِنَّ الْقَائِلَ جَعَلَ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ حَقًّا وَاحِدًا لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَأَبْطَلَ التَّكْلِيفَ . فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ الثَّانِي : مَا فَهِمْت الْمَعْنَى وَرَمَيْت الْقَائِلَ بِمَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ وَيَقْصِدْهُ فَإِنَّ الْقَائِلَ قَالَ : الرَّبُّ حَقٌّ وَالْعَبْدُ حَقٌّ ; أَيْ الرَّبُّ حَقٌّ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَالْعَبْدُ حَقٌّ فِي عُبُودِيَّتِهِ فَلَا الرَّبُّ عَبْدًا وَلَا الْعَبْدُ رَبًّا كَمَا زَعَمْت .
ثُمَّ قَالَ : -
يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ الْمُكَلَّفُ ؟
مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ حَقٌّ . فَحَارَ لِمَنْ يَنْسُبُهُ فِي الْقِيَامِ بِهِ فَقَالَ : إنْ قُلْت عَبْدٌ فَذَاكَ مَيْتٌ . وَالْمَيِّتُ : لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَرَكَةٌ ; بَلْ مِنْ غَيْرِهِ يُقَلِّبُهُ كَمَا يَشَاءُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ - وَإِنْ كَانَ
[ ص: 112 ] حَيًّا - فَإِنَّهُ مَعَ رَبِّهِ : كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فِعْلٌ بِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ لَمْ يَقْوَ الْعَبْدُ عَلَى الْقِيَامِ بِالتَّكْلِيفِ : لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . فَالْفِعْلُ لِلَّهِ حَقِيقَةً . وَلِلْعَبْدِ مَجَازًا وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ; أَيْ لَا حَوْلَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى الطَّاعَةِ : إلَّا بِاَللَّهِ .
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرَّبَّ لَيْسَ عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ لِأَنَّهُ لَا مُكَلِّفَ لَهُ وَالْعَبْدُ لَيْسَ يَقُومُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ إلَّا بِاَللَّهِ وَالتَّكْلِيفُ حَقٌّ .
فَتَعَجَّبَ الْقَائِلُ عِنْدَ شُهُودِهِ لِهَذِهِ الْحَالِ وَحَارَ فِي ذَلِكَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِهِ وَأَنَّهُ عَلَى الْعَبْدِ حَقٌّ فَمَا يَنْبَغِي لِعَاقِلِ أَنْ يَقَعَ فِيمَنْ لَا يُفْهَمُ كَلَامُهُ بَلْ التَّقْصِيرُ مِنْ الْفَهْمِ الْقَصِيرِ فَمَعَ أَيِّهِمَا الْحَقُّ ؟