فصل وأما . أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم . فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم فالكلام على هذا من وجهين : الأول : من قال : إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه فنقول أما الدليل على [ بطلان ] ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه [ ص: 295 ] الداخل في هذه الآية ونفى أن يعلم أحد معناه . وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم ولا قالوا : إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت . ونهوا عن تأويلات أحمد بن حنبل الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه .
ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ويفهمون منها بعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت وفي أحاديث الوعيد مثل قوله : { } وأحاديث الفضائل ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر . من غشنا فليس منا
فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل وكذلك نص أحمد في كتاب " الرد على الزنادقة والجهمية " أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن وتكلم أحمد على ذلك المتشابه وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله . فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته .
[ ص: 296 ] ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين . " هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل إن هذا هو التأويل المذكور في الآية وأنه لا يعلمه إلا الله لكان في هذا تسليم و " التأويل المردود للجهمية أن للآية تأويلا يخالف دلالتها لكن ذلك لا يعلمه إلا الله وليس هذا مذهب السلف والأئمة وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ; لا التوقف فيها وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها .
والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه أن نقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرءوف ونحو ذلك ووصف نفسه بصفات مثل " سورة الإخلاص " و " آية الكرسي " وأول " الحديد " وآخر " الحشر " وقوله : { إن الله بكل شيء عليم } و { على كل شيء قدير } وأنه { يحب المتقين } و { المقسطين } و { المحسنين } وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات { فلما آسفونا انتقمنا منهم } { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } { ولكن كره الله انبعاثهم } { الرحمن على العرش استوى } { ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم } { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم } { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } { إنني معكما أسمع وأرى } . { وهو الله في السماوات وفي الأرض } { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } . { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } . { يريدون وجهه } { ولتصنع على عيني } - إلى أمثال ذلك .
فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض ؟ فإن قلت : هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهرا وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام بل كفر صريح . فإنا نفهم من قوله : { إن الله بكل شيء عليم } معنى ونفهم من قوله : { إن الله على كل شيء قدير } معنى ليس هو الأول ونفهم من قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } معنى ونفهم من قوله : { إن الله عزيز ذو انتقام } معنى . وصبيان المسلمين بل وكل عاقل يفهم هذا .
وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب - مع انتسابه إلى الحديث لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة - من يقول : إنا نسمي الله الرحمن العليم القدير علما محضا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط وكذلك في قوله : { ولا يحيطون بشيء من علمه } يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم .
[ ص: 298 ] وهذا الغلو في الظاهر من جنس غلو القرامطة في الباطن لكن هذا أيبس وذاك أكفر .
ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود وعلى حق موجود أم لا ؟ فإن قال : لا كان معطلا محضا وما أعلم مسلما يقول هذا . وإن قال : نعم قيل له : فلم فهمت منها دلالتها على نفس الرب ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : نعم ; لأن ثبوت الصفات محال في العقل لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث بخلاف الذات . فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة بخلاف الآخر أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع ؟ .
أما " الأول " فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير علي عظيم كدلالته على أنه عليم قدير ليس بينهما فرق من جهة النص وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته .
[ ص: 299 ] وأما " الثاني " فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر : لم نفيت مثلا حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته ؟ فإن قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله . فإن قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه وكذلك محبته . وإن قال - وهو حقيقة قوله - : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين لأن الفعل دل على القدرة والإحكام دل على العلم والتخصيص دل على الإرادة قيل له الجواب من ثلاثة أوجه : ( أحدها : أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة . والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص . والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص . وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا .
( الثاني : يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه بل [ ص: 300 ] الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة مع أن النصوص [ لم ] تفرق ؟ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل .
" الثالث " يقال له : إذا قال لك الجهمي الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه أو نفس الفعل والأمر به وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا إن قال بقدمها ومحذورا إن قال بحدوثها .
وهنا اضطربت المعتزلة فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم ولا يقولون بتجدد صفة له لامتناع حلول الحوادث عند أكثرهم مع تناقضهم .
فصاروا حزبين : البغداديون وهم أشد غلوا في البدعة في الصفات وفي القدر نفوا حقيقة الإرادة . وقال الجاحظ لا معنى لها إلا عدم الإكراه . وقال الكعبي لا معنى لها إلا نفس الفعل إذا تعلقت بفعله ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده .
والبصريون كأبي علي وأبي هاشم قالوا : تحدث إرادة لا في محل فلا إرادة فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل [ ص: 301 ] وكلاهما عند العقلاء معلوم الفساد بالبديهة .
كان جوابه أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال والنص قد دل عليها والعقل أيضا فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل جعله مسفسطا أو مقرمطا وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي .
ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير . وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ; فإن ذلك لا يستلزم حدوثا ولا تركيبا مقتضيا حاجة إلى غيره .
ويعارضون أيضا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية والضرورة العقلية والقواطع العقلية واتفاق الأمم وغير ذلك من الدلائل ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده أو بوجود يعلمون كيفيته فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما لا تشبه حقيقته الحقائق . فالقول في سائر ما سمى ووصف به نفسه كالقول في نفسه سبحانه وتعالى .
[ ص: 302 ] و " نكتة هذا الكلام " أن غالب من نفى وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضي وانتفاء المانع وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضي أو يتوقف إذا لم يكن له عنده مقتض ولا مانع فيبين له أن المقتضي فيما نفاه قائم ; كما أنه فيما أثبته قائم إما من كل وجه أو من وجه يجب به الإثبات . فإن كان المقتضي هناك حقا فكذلك هنا وإلا فدرء ذاك المقتضي من جنس درء هذا .
وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر فإنه إن كان حقا نفاهما وإن كان باطلا لم ينف واحدا منهما فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات .
فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا . وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئا أو يجب عليه إثباته . فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة وإن لم يعرف فسادها على التفصيل وأما من حيث التفصيل فيبين فساد المانع وقيام المقتضي كما قرر هذا غير مرة .
[ ص: 303 ] فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ولم يثبت ما هو فينا أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم .
قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها .
فإن قيل : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية .
قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة وذلك في حق الله محال فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .
فإن قال ذلك تجسيم والتجسيم منتف قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف .
[ ص: 304 ] فإن قال : أنا أعقل صفة ليست عرضا بغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير فإن نفي عقل هذا نفي عقل ذاك وإن كان بينهما نوع فرق لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع ; ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضا مستلزم لنفي الذات ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة وهذا أيضا ليس هو معقول النص ولا مدلول العقل وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق .
وأصل ذلك : أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة وهي ألفاظ جملة مثل : " متحيز " و " محدود " و " جسم " و " مركب " ونحو ذلك ونفوا مدلولها وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ومدلولا عليها بنوع قياس وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ; إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزابا . تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول [ ص: 305 ] كهشام بن الحكم الرافضي فإنه قد قيل : أول ما تكلم في الجسم نفيا وإثباتا من زمن هشام بن الحكم فإن وأبي الهذيل العلاف ونحوه من قدماء أبا الهذيل المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس فعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس واعتقد الأولون إحالة ثبوته واعتقد هذا إحالة نفيه وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض .
فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ويوجب ما أحال نظيره إذ كلامهم من عند غير الله وقد قال الله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } .
والصواب ما عليه أئمة الهدى وهو أن ويتبع في ذلك سبيل يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث السلف الماضين أهل العلم والإيمان والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه ولا يعرض عنها فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم يخرون عليها صما وعميانا ولا يترك تدبر القرآن فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني . فهذا أحد الوجهين وهو منع أن تكون هذه من المتشابه .
[ ص: 306 ] ( الوجه الثاني : أنه إذا قيل : هذه من المتشابه أو كان فيها ما هو من المتشابه كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله إما المتشابه وإما الكتاب كله كما تقدم ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث في ابن إسحاق وفد نجران أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنا و ( نحن ونحو ذلك ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها وهو ما يحتمل معنيين وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى فإن نفي المشابهة بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المشابهة بين موعود الجنة وموجود الدنيا .
وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } { قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون } وقال تعالى : { الر تلك آيات الكتاب المبين } { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } فأخبر أنه أنزله ليعقلوه وأنه طلب تذكرهم .
وقال أيضا : { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } [ ص: 307 ] فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكر فيه ولم يستثن من ذلك شيئا ; بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه مثل قوله { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } وقوله { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفه ما لم يتدبر لما تدبر .
وقال علي رضي الله عنه لما قيل له : هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة . فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة والفهم أخص من العلم والحكم قال الله تعالى : { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { } وقال { رب مبلغ أوعى من سامع } . بلغوا عني ولو آية
وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم مثل الذي كان يقول : لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته . عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 308 ] وهو حبر الأمة وترجمان القرآن كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم ومثلهما في جلالته جلالة أصحاب زيد بن ثابت ; لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به بل أخذوا عن غيره مثل عمر وابن عمر وابن عباس . ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه .
ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية .