[ ص: 270 ] وقال شيخ الإسلام
أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وسلم فصل قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } إلى قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2670&ayano=22ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2671&ayano=22وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } .
nindex.php?page=treesubj&link=29559جعل الله القلوب ثلاثة أقسام : قاسية وذات مرض ومؤمنة مخبتة ; وذلك لأنها إما أن تكون يابسة
[ ص: 271 ] جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون يابسة جامدة .
ف " الأول " هو القاسي وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع ولا يكتب فيه الإيمان ولا يرتسم فيه العلم ; لأن ذلك يستدعي محلا لينا قابلا .
و " الثاني " لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو يكون لينه مع ضعف وانحلال . فالثاني هو الذي فيه مرض والأول هو القوي اللين .
وذلك أن القلب بمنزلة أعضاء الجسد كاليد مثلا فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش أو تبطش بعنف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم فبالرحمة خرج عن القسوة وبالعلم خرج عن المرض ; فإن المرض من الشكوك والشبهات .
ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات .
وفي قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2671&ayano=22وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم } دليل على أن العلم يدل على الإيمان ليس أن أهل العلم
[ ص: 272 ] ارتفعوا عن درجة الإيمان - كما يتوهمه طائفة من المتكلمة - بل معهم العلم والإيمان كما قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=659&ayano=4لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } وقال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3495&ayano=30وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله } الآية .
وعلى هذا فقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } نظير هذه الآية فإنه أخبر هنا أن الذين أوتوا العلم يعلمون أنه الحق من ربهم وأخبر هناك أنهم يقولون في المتشابه : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3آمنا به كل من عند ربنا } وكلا الموضعين موضع ريب وشبهة لغيرهم ; فإن الكلام هناك في المتشابه وهنا فيما يلقي الشيطان مما ينسخه الله ثم يحكم الله آياته وجعل المحكم هنا ضد الذي نسخه الله مما ألقاه الشيطان ; ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين : إن " المحكم " هو الناسخ و " المتشابه " المنسوخ . أرادوا والله أعلم قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } . والنسخ هنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الله .
وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد وهو : أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة ومقابل المنسوخ أخرى . والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح
السلف - العام - كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين
[ ص: 273 ] ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد وكذلك ما رفع حكمه فإن في ذلك جميعه نسخا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن ; ولهذا كانوا يقولون : هل عرفت الناسخ من المنسوخ ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم . وعلى هذا فيصح أن يقال : المحكم والمنسوخ كما يقال المحكم والمتشابه .
وقوله بعد ذلك {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22ثم يحكم الله آياته } جعل جميع الآيات محكمة محكمها ومتشابهها كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1485&ayano=10الر } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1486&ayano=11كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1375&ayano=10تلك آيات الكتاب الحكيم } على أحد القولين .
وهنالك جعل الآيات قسمين : محكما ومتشابها كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } . وهذه المتشابهات مما أنزله الرحمن لا مما ألقاه الشيطان ونسخه الله . فصار
nindex.php?page=treesubj&link=28911_28911المحكم في القرآن تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله وتارة يقابل بما نسخه الله مما ألقاه الشيطان .
ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا حتى يقول : هذه الآية محكمة ليست منسوخة ويجعل المنسوخ ليس محكما وإن كان الله أنزله أولا اتباعا لظاهر قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22فينسخ الله } و {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22يحكم الله آياته } .
[ ص: 274 ] فهذه ثلاث معان تقابل المحكم ينبغي التفطن لها .
وجماع ذلك أن " الإحكام " تارة يكون في التنزيل فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من الاشتباه بغيره وفصل منه ما ليس منه ; فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ; ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد فالمنع جزء معناه لا جميع معناه .
وتارة يكون " الإحكام " في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع وهو اصطلاحي أو يقال - وهو أشبه بقول
السلف - كانوا يسمون كل رفع نسخا سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة . وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ وقد يكون في سمع المبلغ وقد يكون في فهمه كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1737&ayano=13أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } الآية .
ومعلوم أن من سمع النص الذي قد رفع حكمه أو دلالة له فإنه يلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به يحصل رفع الحكم وبيان المراد . وعلى هذا التقدير فيصح أن يقال : المتشابه المنسوخ بهذا الاعتبار والله أعلم .
وتارة يكون " الإحكام " في التأويل والمعنى وهو تمييز الحقيقة
[ ص: 275 ] المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها . وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا فتكون محتملة للمعنيين . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل " المحكم " الذي ليس فيه اختلاف والمتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا .
ولم يقل في المتشابه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله وإنما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وما يعلم تأويله إلا الله } وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو . والوقف هنا على ما دل عليه أدلة كثيرة وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور
التابعين وجماهير الأمة .
ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره بل قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4037&ayano=38كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات وما لا يعقل له معنى لا يتدبر : وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=579&ayano=4أفلا يتدبرون القرآن } ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره . والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله بل أمر بذلك ومدح عليه .
يبين ذلك أن التأويل قد روى أن من
اليهود الذين كانوا
بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كحيي بن أخطب وغيره من
[ ص: 276 ] طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل بعد إسقاط المكرر وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر .
وروي أن من
النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في
وفد نجران من تأول ( إنا و ( نحن على أن الآلهة ثلاثة لأن هذا ضمير جمع . وهذا تأويل في الإيمان بالله فأولئك تأولوا في اليوم الآخر وهؤلاء تأولوا في الله . ومعلوم أن : ( إنا و ( نحن من المتشابه فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد والمعنى متنوع .
و " الأسماء المشتركة في اللفظ " هي من المتشابه وبعض " المتواطئة " أيضا من المتشابه ويسميها أهل التفسير " الوجوه والنظائر " وصنفوا " كتب الوجوه والنظائر " فالوجوه في الأسماء المشتركة والنظائر في الأسماء المتواطئة . وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه
[ ص: 277 ] والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة فهي نظائر باعتبار اللفظ ووجوه باعتبار المعنى وليس الأمر على ما قاله بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله .
والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل {
nindex.php?page=tafseer&surano=172&ayano=2وإلهكم إله واحد } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2382&ayano=20إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2787&ayano=23ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2882&ayano=25ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6336&ayano=112لم يلد ولم يولد } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6337&ayano=112ولم يكن له كفوا أحد } ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها .
وذلك أن " الكلام نوعان " : إنشاء فيه الأمر وإخبار فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به كما قال من قال من
السلف إن السنة هي تأويل الأمر . {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597471قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن } تعني قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6326&ayano=110فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } .
وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع ليس تأويله فهم معناه .
[ ص: 278 ] وقد جاء اسم " التأويل " في القرآن في غير موضع وهذا معناه قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1013&ayano=7ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } فقد أخبر أنه فصل الكتاب وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ثم قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=2هل ينظرون } أي ينتظرون {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7إلا تأويله يوم يأتي تأويله } إلى آخر الآية . وإنما ذلك مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها : كالدابة ويأجوج
ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك فحينئذ يقولون : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله ; فإن الله يقول : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3552&ayano=32فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ويقول : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1186أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر } وقال
ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ; فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وحريرا وذهبا وفضة وغير ذلك ونحن نعلم قطعا أن
[ ص: 279 ] تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه بل بينهما تباين عظيم مع التشابه كما في قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=2وأتوا به متشابها } على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه . فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه . وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به .
وهذا فيه رد على
اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن . ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد . وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة . فكل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته .
وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه إذ الأسماء تشبه الأسماء والمسميات تشبه المسميات ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا
[ ص: 280 ] المتشابه {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3ابتغاء الفتنة } بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن تكون في الجنة هذه الحقائق {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وابتغاء تأويله } ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا . قال الله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وما يعلم تأويله إلا الله } فإن تلك الحقائق قال الله فيها : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3552&ayano=32فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } لا ملك مقرب ولا نبي مرسل .
وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وما يعلم تأويله } إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه ; فإن كان عائدا على الكتاب كقوله ( منه و ( منه {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فهذا يصح ; فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله . وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=1013&ayano=7ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } فجعل التأويل الجائي للكتاب المفصل .
وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة إلا الله وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا وكذلك قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله }
[ ص: 281 ] وإذا كان التأويل للكتاب كله والمراد به ذلك ارتفعت الشبهة وصار هذا بمنزلة قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1148&ayano=7يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض } إلى قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1148&ayano=7إنما علمها عند الله } وكذلك قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3629&ayano=33يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به . فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله وهذا واضح بين . ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها فهذا هذا .
وإن كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه بخلاف الأمر والنهي ولهذا في الآثار : " العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه " لأن المقصود في الخبر الإيمان وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه بخلاف الأمر والنهي ; ولهذا قال بعض [ العلماء ] : " المتشابه " الأمثال والوعد [ والوعيد ] و " المحكم " الأمر والنهي فإنه متميز غير مشتبه بغيره فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع وأمور نتركها لا بد أن نتصورها .
[ ص: 282 ] ومما جاء من لفظ " التأويل " في القرآن قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } والكناية عائدة على القرآن أو على ما لم يحيطوا بعلمه وهو يعود إلى القرآن . قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1411&ayano=10وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1412&ayano=10أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1414&ayano=10ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين } .
فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1601&ayano=11وما كان ربك ليهلك القرى بظلم } وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1201&ayano=8وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله كما تحداهم وطالبهم لما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1412&ayano=10أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } فهذا تعجيز لجميع المخلوقين . قال تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1411&ayano=10ولكن تصديق الذي بين يديه } أي مصدق الذي بين يديه {
nindex.php?page=tafseer&surano=1411&ayano=10وتفصيل الكتاب } أي مفصل الكتاب فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب والكتاب اسم جنس وتحدى القائلين : ( افتراه ودل على أنهم هم
[ ص: 283 ] المفترون قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } أي كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله . ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله . فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتهم تأويله وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله .
و " نكتة ذلك " أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم كذهن الإنسان مثلا ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة فالتأويل هو الحقيقة الخارجة وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية . وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه محكمه ومتشابهه وإن لم يعلم تأويله .
ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2091&ayano=17وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا }
[ ص: 284 ] {
nindex.php?page=tafseer&surano=2092&ayano=17وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } فقد أخبر - ذما للمشركين - أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=820&ayano=6أن يفقهوه } يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه ; ولهذا قال
الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها وما استثنى من ذلك لا متشابها ولا غيره .
وقال
مجاهد : عرضت المصحف على
ابن عباس من أوله إلى آخره مرات أقف عند كل آية وأسأله عنها . فهذا
ابن عباس حبر الأمة وهو أحد من كان يقول : لا يعلم تأويله إلا الله يجيب
مجاهدا عن كل آية في القرآن .
وهذا هو الذي حمل
مجاهدا ومن وافقه
كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3والراسخون في العلم } فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل لأن
مجاهدا تعلم من
ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله .
وأصل ذلك أن لفظ " التأويل " فيه اشتراك بين ما عناه الله في
[ ص: 285 ] القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من
السلف وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن .
ومجاهد إمام التفسير . قال
الثوري : إذا جاءك التفسير عن
مجاهد فحسبك به . وأما التأويل فشأن آخر .
ويبين ذلك أن
الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس وهذا لا ريب فيه .
وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك . فلقبوها : "
nindex.php?page=treesubj&link=28911هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه " .
وما " تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم " فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن
[ ص: 286 ] مواضعه . والغالب على كلا الطائفتين الخطأ أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : {
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=2ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه .
[ ص: 270 ] وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية الحراني الدِّمَشْقِيُّ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَصْلٌ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } إلَى قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2670&ayano=22لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2671&ayano=22وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } .
nindex.php?page=treesubj&link=29559جَعَلَ اللَّهُ الْقُلُوبَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قَاسِيَةً وَذَاتَ مَرَضٍ وَمُؤْمِنَةً مُخْبِتَةً ; وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ يَابِسَةً
[ ص: 271 ] جَامِدَةً لَا تَلِينُ لِلْحَقِّ اعْتِرَافًا وَإِذْعَانًا أَوْ لَا تَكُونُ يَابِسَةً جَامِدَةً .
ف " الْأَوَّلُ " هُوَ الْقَاسِي وَهُوَ الْجَامِدُ الْيَابِسُ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ لَا يَنْطَبِعُ وَلَا يُكْتَبُ فِيهِ الْإِيمَانُ وَلَا يَرْتَسِمُ فِيهِ الْعِلْمُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا لَيِّنًا قَابِلًا .
و " الثَّانِي " لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ ثَابِتًا فِيهِ لَا يَزُولُ عَنْهُ لِقُوَّتِهِ مَعَ لِينِهِ أَوْ يَكُونَ لِينُهُ مَعَ ضَعْفٍ وَانْحِلَالٍ . فَالثَّانِي هُوَ الَّذِي فِيهِ مَرَضٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقَوِيُّ اللَّيِّنُ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ بِمَنْزِلَةِ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ كَالْيَدِ مَثَلًا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ جَامِدَةً يَابِسَةً لَا تَلْتَوِي وَلَا تَبْطِشُ أَوْ تَبْطِشُ بِعُنْفِ فَذَلِكَ مِثْلُ الْقَلْبِ الْقَاسِي أَوْ تَكُونَ ضَعِيفَةً مَرِيضَةً عَاجِزَةً لِضَعْفِهَا وَمَرَضِهَا فَذَلِكَ مِثْلُ الَّذِي فِيهِ مَرَضٌ أَوْ تَكُونَ بَاطِشَةً بِقُوَّةِ وَلِينٍ فَهُوَ مِثْلُ الْقَلْبِ الْعَلِيمِ الرَّحِيمِ فَبِالرَّحْمَةِ خَرَجَ عَنْ الْقَسْوَةِ وَبِالْعِلْمِ خَرَجَ عَنْ الْمَرَضِ ; فَإِنَّ الْمَرَضَ مِنْ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ .
وَلِهَذَا وُصِفَ مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِخْبَاتِ .
وَفِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2671&ayano=22وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَانِ لَيْسَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ
[ ص: 272 ] ارْتَفَعُوا عَنْ دَرَجَةِ الْإِيمَانِ - كَمَا يَتَوَهَّمُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ - بَلْ مَعَهُمْ الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=659&ayano=4لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3495&ayano=30وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ } الْآيَةَ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ هُنَا أَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَخْبَرَ هُنَاكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْمُتَشَابِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } وَكِلَا الْمَوْضِعَيْنِ مَوْضِعُ رَيْبٍ وَشُبْهَةٍ لِغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّ الْكَلَامَ هُنَاكَ فِي الْمُتَشَابِهِ وَهُنَا فِيمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ مِمَّا يَنْسَخُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَجَعَلَ الْمُحْكَمَ هُنَا ضِدَّ الَّذِي نَسَخَهُ اللَّهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ ; وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ : إنَّ " الْمُحْكَمَ " هُوَ النَّاسِخُ و " الْمُتَشَابِهَ " الْمَنْسُوخُ . أَرَادُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } . وَالنَّسْخُ هُنَا رَفْعُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ لَا رَفْعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ أَشَرْت إلَى وَجْهِ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ : أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْمُحْكَمَ مُقَابِلَ الْمُتَشَابِهِ تَارَةً وَمُقَابِلَ الْمَنْسُوخِ أُخْرَى . وَالْمَنْسُوخُ يَدْخُلُ فِيهِ فِي اصْطِلَاحِ
السَّلَفِ - الْعَامِّ - كُلُّ ظَاهِرٍ تُرِكَ ظَاهِرُهُ لِمُعَارِضِ رَاجِحٍ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ هَذَا مُتَشَابِهٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ
[ ص: 273 ] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُجْمَلُ فَإِنَّهُ مُتَشَابِهٌ وَإِحْكَامُهُ رَفْعُ مَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ بِمُرَادِ وَكَذَلِكَ مَا رُفِعَ حُكْمُهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ نَسْخًا لِمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ ; وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ : هَلْ عَرَفْت النَّاسِخَ مِنْ الْمَنْسُوخِ ؟ فَإِذَا عُرِفَ النَّاسِخُ عُرِفَ الْمُحْكَمُ . وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : الْمُحْكَمُ وَالْمَنْسُوخُ كَمَا يُقَالُ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ .
وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } جَعَلَ جَمِيعَ الْآيَاتِ مُحْكَمَةً مُحْكَمَهَا وَمُتَشَابِهَهَا كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1485&ayano=10الر } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1486&ayano=11كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1375&ayano=10تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَهُنَالِكَ جَعَلَ الْآيَاتِ قِسْمَيْنِ : مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } . وَهَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتُ مِمَّا أَنْزَلَهُ الرَّحْمَنُ لَا مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ وَنَسَخَهُ اللَّهُ . فَصَارَ
nindex.php?page=treesubj&link=28911_28911الْمُحْكَمُ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً يُقَابَلُ بِالْمُتَشَابِهِ وَالْجَمِيعُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَتَارَةً يُقَابَلُ بِمَا نَسَخَهُ اللَّهُ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مُقَابِلًا لِمَا نَسَخَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا حَتَّى يَقُولَ : هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً وَيَجْعَلُ الْمَنْسُوخَ لَيْسَ مُحْكَمًا وَإِنْ كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَهُ أَوَّلًا اتِّبَاعًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22فَيَنْسَخُ اللَّهُ } و {
nindex.php?page=tafseer&surano=2669&ayano=22يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } .
[ ص: 274 ] فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَعَانٍ تُقَابِلُ الْمُحْكَمَ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا .
وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ " الْإِحْكَامَ " تَارَةً يَكُونُ فِي التَّنْزِيلِ فَيَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فَالْمُحْكَمُ الْمُنَزَّلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَحْكَمَهُ اللَّهُ أَيْ فَصَلَهُ مِنْ الِاشْتِبَاهِ بِغَيْرِهِ وَفَصَلَ مِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ ; فَإِنَّ الْإِحْكَامَ هُوَ الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ وَالْفَرْقُ وَالتَّحْدِيدُ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ الشَّيْءُ وَيَحْصُلُ إتْقَانُهُ ; وَلِهَذَا دَخَلَ فِيهِ مَعْنَى الْمَنْعِ كَمَا دَخَلَ فِي الْحَدِّ فَالْمَنْعُ جُزْءُ مَعْنَاهُ لَا جَمِيعُ مَعْنَاهُ .
وَتَارَةً يَكُونُ " الْإِحْكَامُ " فِي إبْقَاءِ التَّنْزِيلِ عِنْدَ مَنْ قَابَلَهُ بِالنَّسْخِ الَّذِي هُوَ رَفْعُ مَا شُرِعَ وَهُوَ اصْطِلَاحِيٌّ أَوْ يُقَالُ - وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِ
السَّلَفِ - كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ رَفْعٍ نَسْخًا سَوَاءٌ كَانَ رَفْعَ حُكْمٍ أَوْ رَفْعَ دَلَالَةٍ ظَاهِرَةٍ . وَإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّتِهِ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ لَفْظِ الْمُبَلِّغِ وَقَدْ يَكُونُ فِي سَمْعِ الْمُبَلِّغِ وَقَدْ يَكُونُ فِي فَهْمِهِ كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1737&ayano=13أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } الْآيَةَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَمِعَ النَّصَّ الَّذِي قَدْ رُفِعَ حُكْمُهُ أَوْ دَلَالَةً لَهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي تِلْكَ التِّلَاوَةِ اتِّبَاعَ ذَلِكَ الْمَنْسُوخِ فَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ بِالنَّاسِخِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ رَفْعُ الْحُكْمِ وَبَيَانُ الْمُرَادِ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : الْمُتَشَابِهُ الْمَنْسُوخُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَتَارَةً يَكُونُ " الْإِحْكَامُ " فِي التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى وَهُوَ تَمْيِيزُ الْحَقِيقَةِ
[ ص: 275 ] الْمَقْصُودَةِ مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى لَا تَشْتَبِهَ بِغَيْرِهَا . وَفِي مُقَابَلَةِ الْمُحْكَمَاتِ الْآيَاتُ الْمُتَشَابِهَاتُ الَّتِي تُشْبِهُ هَذَا وَتُشْبِهُ هَذَا فَتَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ " الْمُحْكَمُ " الَّذِي لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَالْمُتَشَابِهُ الَّذِي يَكُونُ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَفِي مَوْضِعِ كَذَا .
وَلَمْ يَقُلْ فِي الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُ تَفْسِيرُهُ وَمَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَهَذَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا هُوَ . وَالْوَقْفُ هُنَا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورُ
التَّابِعِينَ وَجَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ .
وَلَكِنْ لَمْ يَنْفِ عِلْمَهُمْ بِمَعْنَاهُ وَتَفْسِيرِهِ بَلْ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4037&ayano=38كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } وَهَذَا يَعُمُّ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَمَا لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى لَا يُتَدَبَّرُ : وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=579&ayano=4أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا مِنْهُ نَهَى عَنْ تَدَبُّرِهِ . وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا ذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا مَنْ تَدَبَّرَ الْمُحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَطَلَبَ فَهْمَهُ وَمَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ فَلَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ بَلْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَمَدَحَ عَلَيْهِ .
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ التَّأْوِيلَ قَدْ رَوَى أَنَّ مِنْ
الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا
بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كحيي بْنِ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِ مَنْ
[ ص: 276 ] طَلَبَ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ تَأْوِيلَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا سَلَكَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مُوَافَقَةً لِلصَّابِئَةِ الْمُنَجِّمِينَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ عَامًا لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَدَدُ مَا لِلْحُرُوفِ فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ بَعْدَ إسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ وَهَذَا مِنْ نَوْعِ تَأْوِيلِ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ .
وَرُوِيَ أَنَّ مِنْ
النَّصَارَى الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
وَفْدِ نَجْرَانَ مَنْ تَأَوَّلَ ( إنَّا و ( نَحْنُ عَلَى أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ هَذَا ضَمِيرُ جَمْعٍ . وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ فَأُولَئِكَ تَأَوَّلُوا فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ وَهَؤُلَاءِ تَأَوَّلُوا فِي اللَّهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ : ( إنَّا و ( نَحْنُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الَّذِي مَعَهُ أَعْوَانُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِهِ وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ الْمُعَظِّمُ نَفْسَهُ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ مَنْ مَعَهُ غَيْرُهُ لِتَنَوُّعِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا يَقُومُ مَقَامَ مُسَمًّى فَصَارَ هَذَا مُتَشَابِهًا لِأَنَّ اللَّفْظَ وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى مُتَنَوِّعٌ .
و " الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرِكَةُ فِي اللَّفْظِ " هِيَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَبَعْضُ " الْمُتَوَاطِئَةِ " أَيْضًا مِنْ الْمُتَشَابِهِ وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ " الْوُجُوهُ وَالنَّظَائِرُ " وَصَنَّفُوا " كُتُبَ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ " فَالْوُجُوهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالنَّظَائِرِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُصَنِّفِينَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوهَ
[ ص: 277 ] وَالنَّظَائِرَ جَمِيعًا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَهِيَ نَظَائِرُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَوُجُوهٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ بَلْ كَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ .
وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَدَعُونَ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ مِثْلَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=172&ayano=2وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2382&ayano=20إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2787&ayano=23مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=2882&ayano=25وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6336&ayano=112لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=6337&ayano=112وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَيَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ لِيَفْتِنُوا بِهِ النَّاسَ إذَا وَضَعُوهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا .
وَذَلِكَ أَنَّ " الْكَلَامَ نَوْعَانِ " : إنْشَاءٌ فِيهِ الْأَمْرُ وَإِخْبَارٌ فَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ هُوَ نَفْسُ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ
السَّلَفِ إنَّ السُّنَّةَ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ . {
nindex.php?page=hadith&LINKID=597471قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } تَعْنِي قَوْلَهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6326&ayano=110فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } .
وَأَمَّا الْإِخْبَارُ فَتَأْوِيلُهُ عَيْنُ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ بِهِ إذَا وَقَعَ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ فَهْمَ مَعْنَاهُ .
[ ص: 278 ] وَقَدْ جَاءَ اسْمُ " التَّأْوِيلِ " فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهَذَا مَعْنَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1013&ayano=7وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَصَّلَ الْكِتَابَ وَتَفْصِيلُهُ بَيَانُهُ وَتَمْيِيزُهُ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ ثُمَّ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=2هَلْ يَنْظُرُونَ } أَيْ يَنْتَظِرُونَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَجِيءُ مَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِوُقُوعِهِ مِنْ الْقِيَامَةِ وَأَشْرَاطِهَا : كَالدَّابَّةِ وَيَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَمَجِيءِ رَبِّك وَالْمَلَكِ صَفًّا صَفًّا وَمَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الصُّحُفِ وَالْمَوَازِينِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنْوَاعِ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } وَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُعْلَمُ وَقْتَهُ وَقَدْرَهُ وَصِفَتَهُ إلَّا اللَّهُ ; فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3552&ayano=32فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } وَيَقُولُ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1186أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ ; فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ خَمْرًا وَلَبَنًا وَمَاءً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ
[ ص: 279 ] تِلْكَ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِهَذِهِ بَلْ بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ عَظِيمٌ مَعَ التَّشَابُهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=2وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ مِثْلَهُ فَأَشْبَهَ اسْمُ تِلْكَ الْحَقَائِقِ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ كَمَا أَشْبَهَتْ الْحَقَائِقُ الْحَقَائِقَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . فَنَحْنُ نَعْلَمُهَا إذَا خُوطِبْنَا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ مِنْ جِهَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ لِتِلْكَ الْحَقَائِقِ خَاصِّيَّةٌ لَا نُدْرِكُهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا سَبِيلَ إلَى إدْرَاكِنَا لَهَا لِعَدَمِ إدْرَاكِ عَيْنِهَا أَوْ نَظِيرِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَتِلْكَ الْحَقَائِقُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ هِيَ تَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ .
وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنَّةِ أَكْلٌ وَشُرْبٌ وَلِبَاسٌ وَنِكَاحٌ وَيَمْنَعُونَ وُجُودَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ . وَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَنَافَقَ الْمُؤْمِنِينَ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَفْهِيمِ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ إنْ كَانَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الصَّابِئَةِ الْمُنْكِرَةِ لِحَشْرِ الْأَجْسَادِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ مُنَافِقَةِ الْمِلَّتَيْنِ الْمُقِرِّينَ بِحَشْرِ الْأَجْسَادِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى تَفْهِيمِ النَّعِيمِ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الرُّوحَانِيِّ وَالسَّمَاعِ الطَّيِّبِ وَالرَّوَائِحِ الْعَطِرَةِ . فَكُلُّ ضَالٍّ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ إلَى مَا اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ .
وَكَانَ فِي هَذَا أَيْضًا مُتَّبِعًا لِلْمُتَشَابِهِ إذْ الْأَسْمَاءُ تُشْبِهُ الْأَسْمَاءَ وَالْمُسَمَّيَاتُ تُشْبِهُ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَكِنْ تُخَالِفُهَا أَكْثَرَ مِمَّا تُشَابِهُهَا . فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ هَذَا
[ ص: 280 ] الْمُتَشَابِهَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } بِمَا يُورِدُونَهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ تَكُونَ فِي الْجَنَّةِ هَذِهِ الْحَقَائِقُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } لِيَرُدُّوهُ إلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي يَعْلَمُونَهُ فِي الدُّنْيَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } فَإِنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ قَالَ اللَّهُ فِيهَا : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3552&ayano=32فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ .
وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } إمَّا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْكِتَابِ أَوْ عَلَى الْمُتَشَابِهِ ; فَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ ( مِنْهُ و ( مِنْهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } فَهَذَا يَصِحُّ ; فَإِنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمُحْكَمَةِ وَالْمُتَشَابِهَةِ الَّتِي فِيهَا إخْبَارٌ عَنْ الْغَيْبِ الَّذِي أُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْغَيْبِ وَمَتَى يَقَعُ إلَّا اللَّهُ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّأْوِيلَ لِلْكِتَابِ كُلِّهِ مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّهُ مُفَصَّلٌ بِقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1013&ayano=7وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1014&ayano=7هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } فَجَعَلَ التَّأْوِيلَ الْجَائِي لِلْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ وَقْتًا وَقَدْرًا وَنَوْعًا وَحَقِيقَةً إلَّا اللَّهُ وَإِنَّمَا نَعْلَمُ نَحْنُ بَعْضَ صِفَاتِهِ بِمَبْلَغِ عِلْمِنَا لِعَدَمِ نَظِيرِهِ عِنْدَنَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ }
[ ص: 281 ] وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ لِلْكِتَابِ كُلِّهِ وَالْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1148&ayano=7يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلَى قَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1148&ayano=7إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3629&ayano=33يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمُهَا إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ عِلْمُ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ وَحَقِيقَتِهَا وَإِلَّا فَنَحْنُ قَدْ عَلِمْنَا مِنْ صِفَاتِهَا مَا أَخْبَرَنَا بِهِ . فَعِلْمُ تَأْوِيلِهِ كَعِلْمِ السَّاعَةِ وَالسَّاعَةُ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَهَذَا وَاضِحٌ بَيِّنٌ . وَلَا يُنَافِي كَوْنَ عِلْمِ السَّاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ نَعْلَمَ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مَا عَلِمْنَاهُ وَأَنْ نُفَسِّرَ النُّصُوصَ الْمُبَيِّنَةَ لِأَحْوَالِهَا فَهَذَا هَذَا .
وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى مَا تَشَابَهَ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَلِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مُتَشَابِهٌ بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِهَذَا فِي الْآثَارِ : " الْعَمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَالْإِيمَانُ بِمُتَشَابِهِهِ " لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْخَبَرِ الْإِيمَانُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِيهِ مِنْ التَّشَابُهِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ; وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ [ الْعُلَمَاءِ ] : " الْمُتَشَابِهُ " الْأَمْثَالُ وَالْوَعْدُ [ وَالْوَعِيدُ ] و " الْمُحْكَمُ " الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ غَيْرُ مُشْتَبِهٍ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ أُمُورٌ نَفْعَلُهَا قَدْ عَلِمْنَاهَا بِالْوُقُوعِ وَأُمُورٌ نَتْرُكُهَا لَا بُدَّ أَنْ نَتَصَوَّرَهَا .
[ ص: 282 ] وَمِمَّا جَاءَ مِنْ لَفْظِ " التَّأْوِيلِ " فِي الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } وَالْكِنَايَةُ عَائِدَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَهُوَ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ . قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1411&ayano=10وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1412&ayano=10أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=1414&ayano=10وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَا كَانَ لِيُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْمَنْفِيِّ كَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1601&ayano=11وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ } وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1201&ayano=8وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } لِأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ كَمَا تَحَدَّاهُمْ وَطَالَبَهُمْ لَمَّا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1412&ayano=10أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَهَذَا تَعْجِيزٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ . قَالَ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1411&ayano=10وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أَيْ مُصَدِّقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=1411&ayano=10وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ } أَيْ مُفَصِّلَ الْكِتَابِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُفَصَّلُ الْكِتَابِ وَالْكِتَابُ اسْمُ جِنْسٍ وَتَحَدَّى الْقَائِلِينَ : ( افْتَرَاهُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ
[ ص: 283 ] الْمُفْتَرُونَ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1413&ayano=10بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أَيْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ . فَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ وَبَيْنَ إتْيَانِ تَأْوِيلِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحِيطَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ وَأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ إتْيَانَ تَأْوِيلِهِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِعِلْمِهِ مَعْرِفَةُ مَعَانِي الْكَلَامِ عَلَى التَّمَامِ وَإِتْيَانُ التَّأْوِيلِ نَفْسُ وُقُوعِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْمُخْبَرِ بِهِ فَمَعْرِفَةُ الْخَبَرِ هِيَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةُ الْمُخْبَرِ بِهِ هِيَ مَعْرِفَةُ تَأْوِيلِهِ .
و " نُكْتَةُ ذَلِكَ " أَنَّ الْخَبَرَ لِمَعْنَاهُ صُورَةٌ عِلْمِيَّةٌ وُجُودُهَا فِي نَفْسِ الْعَالِمِ كَذِهْنِ الْإِنْسَانِ مَثَلًا وَلِذَلِكَ الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْعِلْمِ وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَدُلُّ ابْتِدَاءً عَلَى الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ ثُمَّ تَتَوَسَّطُ ذَلِكَ أَوْ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْخَارِجَةِ فَالتَّأْوِيلُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْخَارِجَةُ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ مَعْرِفَةُ الصُّورَةِ الْعِلْمِيَّةِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيُعْلَمَ وَيُفْهَمَ وَيُفْقَهَ وَيُتَدَبَّرَ وَيُتَفَكَّرَ فِيهِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَأْوِيلُهُ .
وَيَبِينُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ عَنْ الْكُفَّارِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2091&ayano=17وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا }
[ ص: 284 ] {
nindex.php?page=tafseer&surano=2092&ayano=17وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } فَقَدْ أَخْبَرَ - ذَمًّا لِلْمُشْرِكِينَ - أَنَّهُ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ حُجِبَ بَيْنَ أَبْصَارِهِمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ بِحِجَابِ مَسْتُورٍ وَجَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا . فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةٌ أَنْ يَفْقَهُوا بَعْضَهُ لَشَارَكُوهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=820&ayano=6أَنْ يَفْقَهُوهُ } يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ . فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُفْقَهَ ; وَلِهَذَا قَالَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عَنَى بِهَا وَمَا اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ لَا مُتَشَابِهًا وَلَا غَيْرَهُ .
وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى
ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ مَرَّاتٍ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا . فَهَذَا
ابْنُ عَبَّاسٍ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ كَانَ يَقُولُ : لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ يُجِيبُ
مُجَاهِدًا عَنْ كُلِّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَمَلَ
مُجَاهِدًا وَمَنْ وَافَقَهُ
كَابْنِ قُتَيْبَةَ عَلَى أَنْ جَعَلُوا الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=303&ayano=3وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } فَجَعَلُوا الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ لِأَنَّ
مُجَاهِدًا تَعَلَّمَ مِنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَبَيَانَ مَعَانِيهِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْمَنْفِيُّ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ .
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " التَّأْوِيلِ " فِيهِ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ مَا عَنَاهُ اللَّهُ فِي
[ ص: 285 ] الْقُرْآنِ وَبَيْنَ مَا كَانَ يُطْلِقُهُ طَوَائِفُ مِنْ
السَّلَفِ وَبَيْنَ اصْطِلَاحِ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَبِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ التَّأْوِيلِ اعْتَقَدَ كُلُّ مَنْ فَهِمَ مِنْهُ مَعْنًى بِلُغَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ .
وَمُجَاهِدٌ إمَامُ التَّفْسِيرِ . قَالَ
الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ
مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ . وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَشَأْنٌ آخَرُ .
وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ
الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا قَالَ هَذِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ وَلَا قَالَ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ : إنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا وَلَا يَفْهَمُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعُهُمْ وَإِنَّمَا قَدْ يَنْفُونَ عِلْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ .
وَإِنَّمَا وَضَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الطَّوَائِفِ بِسَبَبِ الْكَلَامِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِ الْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَلَقَّبُوهَا : "
nindex.php?page=treesubj&link=28911هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ " .
وَمَا " تَعَبَّدْنَا بِتِلَاوَةِ حُرُوفِهِ بِلَا فَهْمٍ " فَجَوَّزَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِأَنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ وَمَنَعَهَا طَوَائِفُ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إلَى تَأْوِيلَاتِهِمْ الْفَاسِدَةِ الَّتِي هِيَ تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ
[ ص: 286 ] مَوَاضِعِهِ . وَالْغَالِبُ عَلَى كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْخَطَأُ أُولَئِكَ يُقَصِّرُونَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ فِيهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=2وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } وَهَؤُلَاءِ مُعْتَدُونَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ .