; فلهذا لم يجز أن يستعمل في حقه قياس التمثيل ولا قياس الشمول الذي تستوي أفراده فإن ذلك شرك ; إذ سوي فيه بالمخلوق ; بل قياس الأولى . فإنه سبحانه له المثل الأعلى في السموات والأرض فهو أحق من غيره بصفات الكمال وأحق من غيره بالتنزيه عن صفات النقص . وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع وبين أن من جعله الوجود المطلق والمقيد بالسلب أو ذاتا مجردة فهؤلاء مثلوه بأنقص المعقولات الذهنية وجعلوه دون الموجودات الخارجية . والنفاة الذين قصدوا إثبات حدوث العالم بإثبات حدوث الجسم لم يثبتوا بذلك حدوث شيء كما قد بين في موضعه . ثم إنهم جعلوا عمدتهم في وليس لله صفة يماثله فيها غيره ومن سلك هذا المسلك لم ينزه الله عن شيء من النقائص ألبتة فإنه [ ص: 165 ] ما من صفة ينفيها لأنها تستلزم التجسيم وتكون من صفات الأجسام إلا يقال له فيما أثبته نظير ما يقوله هو في نفس تلك الصفة . فإن كان مثبتا لبعض الصفات قيل له : القول في هذه الصفة التي تنفيها كالقول فيما أثبته فإن كان هذا تجسيما وقولا باطلا فهذا كذلك وإن قلت : أنا أثبت هذا على الوجه الذي يليق بالرب قيل له : وكذلك هذا . وإن قلت : أنا أثبته وأنفي التجسيم . قيل : وهذا كذلك فليس لك أن تفرق به بين المتماثلين . وإن كان ممن يثبت الأسماء وينفي الصفات تنزيه الرب عن النقائص على نفي الجسم كالمعتزلة قيل له في الصفات ما يقوله هو في الأسماء فإذا كان يثبت حيا عالما قادرا وهو لا يعرف من هو متصف بذلك إلا جسما كان إثبات أن له علما وقدرة كما نطق به الكتاب والسنة كذلك . وإن كان ممن لا يثبت لا الأسماء ولا الصفات كالجهمية المحضة والملاحدة قيل له : فلا بد أن تثبت موجودا قائما بنفسه وأنت لا تعرف ذلك إلا جسما وإن قال : لا أسميه باسم لا إثبات ولا نفي . قيل له : سكوتك لا ينفي الحقائق ولا واسطة بين النفي والإثبات فإما أن يكون حقا ثابتا موجودا وإما أن يكون باطلا معدوما .
[ ص: 166 ] وأيضا فإن كنت لم تعرفه فأنت جاهل فلا تتكلم وإن عرفته فلا بد أن تميز بينه وبين غيره بما يختص به مثل أن تقول : رب العالمين أو القديم الأزلي أو الموجود بنفسه ونحو ذلك وحينئذ فقد أثبت حيا موجودا قائما بنفسه وأثبته فاعلا وأنت لا تعرف ما هو كذلك إلا الجسم . وإن قدر أنه جاحد له قيل له : فهذا الوجود مشهود فإن كان قديما أزليا موجودا بنفسه فقد يثبت جسم قديم أزلي موجود بنفسه وهو ما فررت منه وإن كان مخلوقا مصنوعا فله خالق خلقه ولا بد أن يكون قديما أزليا ; فقد ثبت الموجود القائم بنفسه القديم الأزلي على كل تقدير . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع . وهنا قد نبهنا على ذلك هو أنه كل من بنى تنزيهه للرب عن النقائص والعيوب على نفي الجسم فإنه لا يمكنه أن ينزهه عن عيب أصلا بهذه الحجة وكذلك من جعل عمدته نفي التركيب . ومن تدبر ما ذكروه في كتبهم تبين له أنهم لم يقيموا حجة على وجوده فلا هم أثبتوه وأثبتوا له ما يستحقه ولا نزهوه ونفوا عنه ما لا يجوز عليه ; إذ كان إثباته هو إثبات حدوث الجسم ولم يقيموا على ذلك دليلا والنفي اعتمدوا فيه على ذلك وهم متناقضون فيه لو [ ص: 167 ] كانوا أقاموا دليلا على نفي كونه جسما فكيف إذا لم يقيموا على ذلك دليلا وتناقضوا . وهذا مما يتبين لك أن من خرج عن الكتاب والسنة فليس معه علم لا عقلي ولا سمعي ; لا سيما في هذا المطلوب الأعظم لكنهم قد يكونون معتقدين لعقائد صحيحة عرفوها بالفطرة العقلية وبما سمعوه من القرآن ودين المسلمين فقلوبهم تثبت ما تثبت وتنفي ما تنفي بناء على هذه الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة ; لكنهم سلكوا هذه الطرق البدعية وليس فيها علم أصلا ; ولكن يستفاد من كلامهم إبطال بعضهم لقول المبطل الآخر وبيان تناقضه . ولهذا لما ذكروا المقالات الباطلة في الرب جعلوا يردونها بأن ذلك تجسيم كما فعل القاضي أبو بكر في هداية المسترشدين وغيره فلم يقيموا حجة على أولئك المبطلين وردوا كثيرا مما يقول اليهود بأنه تجسيم وقد كان اليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أحيانا يذكرون له بعض الصفات كحديث الحبر وقد ذم الله اليهود على أشياء كقولهم : ( إن الله فقير وإن يده مغلولة وغير ذلك ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قط إنهم يجسمون ولا أن في التوراة تجسيما ولا عابهم بذلك ولا رد هذه الأقوال الباطلة بأن هذا تجسيم كما فعل ذلك من فعله من النفاة .
[ ص: 168 ] فتبين أن هذه الطريقة مخالفة للشرع والعقل وأنها مخالفة لما بعث الله به رسوله ولما فطر عليه عباده وأن أهلها من جنس الذين قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } . وقد بينا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره الرازي من أن طريقة الوجوب والإمكان من أعظم الطرق وبينا فسادها وأنها لا تفيد علما وأنهم لم يقيموا دليلا على إثبات واجب الوجود وأن طريقة الكمال أشرف منها وعليها اعتماد العقلاء قديما وحديثا وهو قد اعترف في آخر عمره بأنه قد تأمل الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ووجد أقرب الطرق طريقة القرآن . ابن سينا وهو أخذها من كلام المتكلمين الذين قسموا الوجود إلى محدث وقديم فقسمه هو إلى واجب وممكن ; ليمكنه القول بأن الفلك ممكن مع قدمه وخالف بذلك عامة العقلاء من سلفه وغير سلفه وخالف نفسه فإنه قد ذكر في المنطق ما ذكره سلفه من أن الممكن لا يكون إلا محدثا كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع . ثم إن هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة انتهت بهم إلى قول وطريقة الوجوب والإمكان لم يسلكها أحد قبل فرعون ; فإن [ ص: 169 ] فرعون جحد الخالق وكذب موسى في أن الله كلمه وهؤلاء ينتهي قولهم إلى جحد الخالق وإن أثبتوه قالوا إنه لا يتكلم ولا نادى أحدا ولا ناجاه . وعمدتهم في نفي ذاته على نفي الجسم . وفي نفي كلامه وتكليمه لموسى على أنه لا تحله الحوادث فلا يبقى عندهم رب ولا مرسل ; فحقيقة قولهم يناقض شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ; فإن الرسول هو المبلغ لرسالة مرسله والرسالة هي كلامه الذي بعثه به فإذا لم يكن متكلما لم تكن رسالة .
ولهذا ومن لم يقل إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما يقوم بذاته لم يقل إنه يتكلم والنفاة منهم من يقول : الكلام صفة فعل بمعنى أنه مخلوق بائن عنه ومنهم من يقول : هو صفة ذات بمعنى أنه كالحياة يقوم بذاته وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته وكل طائفة مصيبة في إبطال باطل الأخرى . والدليل يقوم على أنه صفة ذات وفعل تقوم بذات الرب والرب يتكلم بمشيئته وقدرته فأدلة من قال : إنه صفة فعل كلها إنما تدل على أنه يتكلم بقدرته ومشيئته وهذا حق وأدلة من قال إنه صفة ذات إنما تدل على أن كلامه يقوم بذاته وهذا حق وأما من أثبت أحدهما [ ص: 170 ] كمن قال إن كلامه مخلوق أو قال إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته فهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا أنه يتكلم ولا أثبتوا له كلاما ; ولهذا يقولون : ما لا يعقل . هذا يقول : إنه معنى واحد قام بالذات وهذا يقول : حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته وهذا يقول : مخلوق بائن عنه . ولهذا لما ظهر لطائفة من أتباعهم ما في قولهم من الفساد ولم يعرفوا عين هذه الأقوال الثلاثة حاروا وتوقفوا وقالوا : نحن نقر بما عليه عموم المسلمين من أن القرآن كلام الله وأما كونه مخلوقا أو بحرف وصوت أو معنى قائم بالذات فلا نقول شيئا من هذا . اتفق الأنبياء على أن الله يتكلم
ومعلوم أن الهدى في هذه الأصول ومعرفة الحق فيها هو معرفة ما جاء به الرسول وهو الموافق لصريح المعقول أنفع وأعظم من كثير مما يتكلمون فيه من العلم لا سيما والقلوب تطلب معرفة الحق في هذه بالفطرة ولما قد رأوا من اختلاف الناس فيها . وهؤلاء يذكرون هذا الوقف في عقائدهم وفيما صنفوه في أصول الدين كما قد رأيت منهم من أكابر شيوخ العلم والدين بمصر والشام قد صنفوا في أصول الدين ما صنفوه ولما تكلموا في " مسألة القرآن " وهل هو مخلوق ؟ أو قديم ؟ أو هو الحروف والأصوات ؟ أو معنى قائم بالذات ؟ نهوا عن هذه الأقوال وقالوا : الواجب أن يقال ما قاله [ ص: 171 ] المسلمون كلهم : أن ويمسك عن هذه الأقوال . وهؤلاء توقفوا عن حيرة وشك ولهم رغبة في العلم والهدى والدين وهم من أحرص الناس على معرفة الحق في ذلك وغيره لكن لم يعلموا إلا هذه الأقوال الثلاثة : قول القرآن كلام الله المعتزلة والكلابية والسالمية وكل طائفة تبين فساد قول الأخرى وفي كل قول من الفساد ما يوجب الامتناع من قبوله ولم يعلموا قولا غير هذه فرضوا بالجهل البسيط وكان أحب إليهم من الجهل المركب وكان أسباب ذلك أنهم وافقوا هؤلاء على أصل قولهم ودينهم وهو الاستدلال على حدوث الأجسام وحدوث العالم بطريقة أهل الكلام المبتدع كما سلكها من ذكرته من أجلاء شيوخ أهل العلم والدين والاستدلال على إمكانها بكونها مركبة كما سلك الشيخ الآخر وهذا ينفي عن الواجب أن يكون جسما بهذه الطريقة وذلك نفي عنه أنه جسم بتلك الطريقة وحذاق النظار الذين كانوا أخبر بهذه الطرق وأعظم نظرا واستدلالا بها وبغيرها قد عرفوا فسادها كما قد بسط في غير هذا الموضع .