وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
وهذا قول الجهمية والنجارية والضرارية وغيرهم فإن هؤلاء [ ص: 150 ] يقولون : إنه خالق أفعال العباد وكلامهم مع قولهم إن كلامه مخلوق فيلزمهم هذا .وأما " المعتزلة " فلا يقولون إن الله خالق أفعال العباد لكن الحجة توجب القول بذلك .
وقالت طائفة : بل الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ويمتنع أن يكون كلامه مخلوقا في غيره وهو متكلم بمشيئته وقدرته فيكون كلامه حادثا بعد أن لم يكن ; لامتناع حوادث لا أول لها . وهذا قول الكرامية وغيرهم . ثم من هؤلاء من يقول : كلامه كله حادث لا محدث . ومنهم من يقول هو حادث ومحدث . وقال كثير من هؤلاء الذين يقولون بامتناع حوادث لا أول لها مطلقا : الكلام لازم لذات الرب كلزوم الحياة ليس هو متعلقا بمشيئته وقدرته بل هو قديم كقدم الحياة ; إذ لو قلنا إنه بقدرته ومشيئته لزم أن يكون حادثا وحينئذ فيلزم أن يكون مخلوقا أو قائما بذات الرب فيلزم قيام الحوادث به وذلك يستلزم تسلسل الحوادث . لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده . قالوا : وتسلسل الحوادث ممتنع ; إذ التفريع على هذا الأصل .
ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه فقالت طائفة : [ ص: 151 ] القديم لا يكون حروفا ولا أصواتا ; لأن الصوت يستحيل بقاؤه كما يستحيل بقاء الحركة وما امتنع بقاؤه امتنع قدم عينه بطريق الأولى والأحرى فيمتنع قدم شيء من الأصوات المعينة كما يمتنع قدم شيء من الحركات المعينة . لأن تلك لا تكون كلاما إلا إذا كانت متعاقبة والقديم لا يكون مسبوقا بغيره فلو كانت الميم من ( بسم الله قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقا بغيره وهذا ممتنع فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ولا يجوز تعدده ; لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحا بلا مرجح وإن كان لا يتناهى لزم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد . قالوا : وهذا ممتنع فيلزم أن يكون معنى واحدا هو الأمر والخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية .
وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم : بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة .
ومنهم من قال : بل هو أيضا أصوات قديمة ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة وبين الحروف المكتوبة التي توجد في آن واحد كما يفرق بين الأصوات والمداد . فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد فإنه جسم يبقى وإذا كان الصوت لا يبقى امتنع [ ص: 152 ] أن يكون الصوت المعين قديما ; لأن ما وجب قدمه لزم بقاؤه وامتنع عدمه والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد أو ما يقدر بقدر المداد : كالشكل المصنوع في حجر وورق فإزالة بعض أجزائه تدل على حدوثه وقد يراد بالحروف نفس المداد .
وأما الحروف المنطوقة فقد يراد بها أيضا الأصوات المقطعة المؤلفة وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها كما يراد بالحرف في الجسم حده ومنتهاه . فيقال : حرف الرغيف وحرف الجبل ونحو ذلك . ومنه قوله تعالى { ومن الناس من يعبد الله على حرف } وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية الباطنة وهي ما يتشكل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به .
وقد تنازع الناس هل يمكن وجود حروف بدون أصوات في الحي الناطق ؟ على قولين لهم وعلى هذا تنازعت هذه ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ . هل يسمع منه الصوت القديم ؟ فقيل : المسموع هو الصوت القديم وقيل بل المسموع هو صوتان أحدهما القديم والآخر المحدث فما لا بد منه في وجود القرآن فهو القديم وما زاد على ذلك فهو المحدث . [ ص: 153 ] وقيل : بل الصوت القديم غير المسموع من العبد . الطائفة القائلة بقدم أعيان الحروف هل تكون قديمة بدون أصوات قديمة أم لا بد من أصوات قديمة لم تزل ولا تزال ؟