فصل
فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية، وفرقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضا وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضا؛ لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى، أو ما يقوم بمتحيز أو جسم، وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام، وهؤلاء - أهل الكلام القياسي من الصفاتية - فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها، كالصفات [ ص: 1742 ] السبع، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام، هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية؟
ولهم اختلاف في البقاء والقدم، وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات، ولهم أيضا اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية؟ كالوجه واليد، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها، وكثير من متأخريهم لا يثبتها، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها.
ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقلي عنده، ومنهم من يفوض معناها، وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات، وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله، فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصائبة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة تركيب، وليس بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة، لكن أولئك أشد اتباعا للأثارة النبوية وأقرب إلى مذاهب أهل السنة من المعتزلة ونحوهم من وجوه كثيرة، ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف، لوجوه:
أحدها: كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم.
الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه.
الثالث: ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم.
الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث، تارة يرون ما يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور.
فلما كان هذا منهاجهم، وقالوا: إن لما دل على ذلك من النصوص وإجماع [ ص: 1743 ] السلف. القرآن غير مخلوق
ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية وبين القياس العقلي لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائما بنفس الله تعالى كسائر الصفات، كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات، لا قديما كسائر الصفات، ورأوا أنه ليس إلا مخلوقا أو قديما - فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته، وهو دليل على حدوث الموصوف، ويبطل لدلالة حدوث العالم، ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة، بل إما معنى واحدا عند طائفة، أو معاني أربعة عند طائفة، والتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام، بل دالة عليه، فتسمى باسمه إما مجازا عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة، وإما مجازا في كلام الله حقيقة في غيره عند طائفة.
وخالفهم الأولون وبعض من يستن أيضا، وقالوا: لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه، أو الإرادة ونوعها، فصار النزاع بين الطائفتين، وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية، ليست أنواعا له وأقساما، وأن كلام الله معنى واحد، إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وبالعبرية فهو توراة، وبالسريانية فهو إنجيل.
وقال لهم أكثر الناس: هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما قال الأولون: إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلما به، وإن المتكلم من أحدث الكلام ولو في ذات غير ذاته. وقال لهم أكثر الناس: إن هذا معلوم الفساد بالضرورة.
وقال الجمهور من جميع الطوائف: إن الكلام اسم لللفظ والمعنى جميعا، كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعا، وإنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة، وإن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة كتنوع ألفاظه، وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع، والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرق، والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة، وإن لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقا.
وفرقوا بين كتاب الله وكلامه، فقالوا: كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق، وكلام الله [ ص: 1744 ] هو معناها غير مخلوق، وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون: إنه مخلوق، واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل، أو أن جبرئيل هو الذي أحدثها أو محمد؟!
وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل، وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم، وهم المتبعون للرسالة اتباعا محضا، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين، وهو أن القرآن كله كلام الله، لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله.
والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن، حروفه ومعانيه، والأمر والنهي هو اللفظ والمعنى جميعا، ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف - الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية - إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء، إذا تكلموا في الأمر والنهي - ذكروا ذلك، وخالفوا من قال: إن الأمر هو المعنى المجرد.
ويعلمون أهل الأثارة النبوية، أهل السنة والحديث، وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة أن قوله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة: 1 - 2] ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره، وكلام الله هو ما تكلم به، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به.
(وسئل تقي الدين أيضا): ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - فيمن يقول: الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى، بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد، أثابكم الله بمنه.
(فأجاب رحمه الله): الحمد لله، من قال: إن الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه - فهذا خطأ وضلال، وهو من يقول: إن القرآن مخلوق، فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم: العلم غير العالم، والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم.
ثم يقولون: وما كان [ ص: 1745 ] غير الله فهو مخلوق، وهذا تلبيس منهم، فإن لفظ (الغير) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال: علم الله غيره ولا كلامه غيره، ولا يقال: إن الواحد من العشرة غيرها، وأمثال ذلك.
وقد يقال بلفظ (الغير) ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف، ولكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته – مخلوقا؛ لأن صفاته ليست هي الذات، لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها، والصواب في مثل هذا أن يقال: الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس مبائنا منه، بل أسمعه لجبرئيل ونزله به على محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منـزل من ربك بالحق ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره. بل يقال - كما قال السلف -: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود.
فقولهم (منه بدا) رد على من قال (إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ) فبينوا أن الله هو المتكلم به، ومنه بدا، لا من بعض المخلوقات.
(وإليه يعود) أي: فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف.
وأما القرآن فهو كلام الله، فمن قال: إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله - فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال: إن الكلام غير المتكلم.
وكذلك من قال: إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به - فخطؤه ظاهر.
وكذلك: إن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون - فقد أخطأ، وإن أراد بالقرآن مصدر (قرأ يقرأ قراءة وقرآنا) وقال: أردت القراءة غير المقروء، فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر، قال: القارئ غير المقروء، كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول، وأراد بـ(الغير) أنه ليس هو إياه - فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف [ ص: 1746 ] والمعاني، ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة، وقسيما منه أخرى.
فالأول كما يقال: الإيمان قول وعمل. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم- : . إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست - أو حدثت - به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم
ومنه قوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10]. ومنه قوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل [يونس: 61]. وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل.
وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [الحجر: 92 - 93] وقد فسروه بقوله: لا إله إلا الله.
ولما سئل: [ ص: 1747 ] مع قوله: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله ونظائر ذلك متعددة. الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان، أفضلها وأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق
وقد تنوزع فيمن ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ بناء على هذا، فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها وإلا وقع فيها نزاع واضطراب، والله سبحانه وتعالى أعلم. حلف لا يعمل عملا، إذا قال قولا كالقراءة، هل يحنث
انتهى كلام تقي الدين رحمه الله تعالى.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الرد على الجهمية": سألت أبي عن قوم يقولون (لما كلم الله موسى ): لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بلى، تكلم - جل ثناؤه – بصوت. هذه الأحاديث نرويها كما جاءت.
وقال أبي: حديث : إذا تكلم الله تعالى سمع له صوت [ ص: 1748 ] كمر السلسلة على الصفوان. ابن مسعود
قال: وهذه الجهمية تنكره، وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس. ثم قال: حدثنا المحاربي ، عن عن الأعمش، ، عن مسلم ، عن مسروق عبيد الله قال: إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا.
وقال السفاريني في "شرح العقيدة": روي في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثا، وأخرج غالبها، واحتج به. الإمام أحمد
وأخرج الحافظ ابن حجر أيضا في "شرح " واحتج بها البخاري وغيره من أئمة الحديث، على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت، وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه، واعتمدوا على ذلك، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله، من شبهات الحدوث وسمات النقص، كما قالوا في سائر الصفات، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة، المعصوم في أقواله، الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم. البخاري
وقال الإمام الواسطي ابن شيخ الحرمين في "عقيدته": إنني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد. وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك، من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها والوقوف فيها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات، وكذلك في إثبات العلو والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء، وتأول [ ص: 1749 ] النزول بنزول الأمر، وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين، وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم، وأمثال ذلك. الشافعي
ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله معنى قائما بالذات، بلا حرف ولا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.
وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة، مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين؛ لأني على مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - عرفت فرائض ديني وأحكامه، فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي، ولي فيهم الاعتقاد التام؛ لعلمهم وفضلهم، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر، وعدم انشراحه مقرونا بها، فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول؛ مخافة الحصر والتشبيه.
ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بها، مخبرا عن ربه، واصفا له بها، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء المتكلمون.
ثم قال: والذين أولوا ما أولوا هو أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصف الحق به نفسه، ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له - كما يليق بجلاله وعظمته، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين - لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل.
ثم قال: ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق؛ فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه، فقال تعالى: المص [الأعراف: 1] وقال: ق والقرآن المجيد [ق: 1]، وكذلك [ ص: 1750 ] جاء في الحديث: فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب.
وفي الحديث: . لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف
فهؤلاء ما فهموا [ ص: 1751 ] من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين، قالوا: إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات، وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة، فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات.
والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر، والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات، وكذلك له صوت يليق به يسمع، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والخنجرة، فكلام الله كما يليق به، وصوته كما يليق به، ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه؛ لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك، وهذا ينشرح الصدر له، ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله: هذا عبارة عن ذلك.
فإن قيل: هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو؟ قلنا: لا، بل القارئ يؤدي كلام الله، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مؤديا مبلغا.
ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه، ولهذا منع السلف من قول: (لفظي بالقرآن مخلوق) لأنه لا يتميز، كما منعوا عن قول: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه؛ كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن. وما أمر السلف بالسكوت عنه يجب السكوت عنه، والله الموفق والمعين.