وأما الرفع فمن وجهين، أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع، وقد تقدم.
والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: أولئك الأولى، والثاني: أولئك الثانية، والواو زائدة.
وهذان القولان رديئان منكران؛ لأن قوله: "والذين يؤمنون" يمنع كون "أولئك" الأولى خبرا، ووجود الواو يمنع كون "أولئك" الثانية خبرا أيضا، وقولهم الواو زائدة لا يلتفت إليه.
والنصب على القطع، و"يؤمنون" صلة وعائد، وهو مضارع، علامة رفعه النون؛ لأنه أحد الأمثلة الخمسة.
والأمثلة الخمسة عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به ألف اثنين أو واو جمع أو ياء مخاطبة، نحو: يؤمنان تؤمنان يؤمنون تؤمنون تؤمنين.
والمضارع معرب أبدا، إلا أن يباشر نون توكيد أو إناث، على تفصيل يأتي - إن شاء الله تعالى - في غضون هذا الكتاب.
وهو مضارع (آمن) بمعنى صدق، وآمن مأخوذ من أمن الثلاثي، فالهمزة [ ص: 92 ] في "آمن" للصيرورة، نحو: أعشب المكان أي: صار ذا عشب، أو لمطاوعة (فعل) نحو: كب فأكب، وإنما تعدى بالباء؛ لأنه ضمن معنى اعترف، وقد يتعدى باللام كقوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا فما آمن لموسى إلا أن في ضمن التعدية باللام التعدية بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين.
وأصل "يؤمنون": يؤأمنون بهمزتين، الأولى: همزة أفعل، والثانية: فاء الكلمة، حذفت الأولى لقاعدة تصريفية، وهو أن همزة أفعل تحذف بعد حرف المضارعة واسم فاعله ومفعوله نحو: أكرم وتكرم ويكرم ونكرم وأنت مكرم ومكرم، وإنما حذفت؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو: أنا أكرم، الأصل: أأكرم بهمزتين، الأولى: للمضارعة، والثانية: همزة أفعل، فحذفت الثانية لأن بها حصل الثقل، ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه، ثم حمل باقي الباب على ذلك طردا للباب، ولا يجوز ثبوت همزة أفعل في شيء من ذلك، إلا في ضرورة كقوله:
112 - فإنه أهل لأن يؤكرما . . . . . . . . . . . . . . . .
و"بالغيب" متعلق بـ(يؤمنون)، ويكون مصدرا واقعا موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول.
وفي هذا الثاني نظر؛ لأنه من (غاب) وهو لازم فكيف يبنى منه اسم مفعول حتى يقع المصدر موقعه؟ إلا أن يقال إنه واقع موقع اسم [ ص: 93 ] المفعول من (فعل) مضعفا متعديا أي المغيب، وفيه بعد.
وقال : "يجوز أن يكون مخففا من (فيعل) نحو: "هين من هين، وميت من ميت"، وفيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلا كنظائره، فإنها سمعت مخففة ومثقلة، ويبعد أن يقال: التزم التخفيف في هذا خاصة. الزمخشري
ويجوز أن تكون الباء للحال فيتعلق بمحذوف، أي: يؤمنون ملتبسين بالغيب عن المؤمن به، والغيب حينئذ مصدر على بابه.
وهمزة (يؤمنون) - وكذا كل همزة ساكنة - يجوز أن تدير بحركة ما قبلها فتبدل حرفا مجانسا نحو: راس وبير ويومن، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل، نحو إيمان وآمن.
و"يقيمون" عطف على "يؤمنون" فهو صلة وعائد.
وأصله يؤقومون حذفت همزة (أفعل) لوقوعها بعد حرف المضارعة - كما تقدم - فصار يقومون، فاستثقلت الكسرة على الواو ففعل فيه ما فعل في "مستقيم"، وقد تقدم في الفاتحة.
ومعنى يقيمون: يديمون أو يظهرون، قال الشاعر:
113 - أقمنا لأهل العراقين سوق الـ ـطعان فخاموا وولوا جميعا
وقال آخر:
114 - وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان
[ ص: 94 ] و"الصلاة" مفعول به، ووزنها: فعلة، ولامها واو لقولهم: صلوات، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، واشتقاقها من الصلوين وهما: عرقان في الوركين مفترقان من الصلا، وهو عرق مستبطن في الظهر، منه يتفرق الصلوان عند عجب الذنب، وذلك أن المصلي يحرك صلويه، ومنه المصلي في حلبة السباق لمجيئه ثانيا عند صلوي السابق.
والصلاة لغة: الدعاء، قال:
115 - تقول بنتي وقد قربت مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي يوما فإن لجنب المرء مضطجعا
أي: مثل الذي دعوت، ومثله:
116 - لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
وفي الشرع: هذه العبادة المعروفة، وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه: "صلي بالنار" أي لزمها، [قال] :
117 - لم أكن من جناتها علم اللـ ـه وإني بحرها اليوم صالي
وقيل: من صليت العود بالنار أي قومته بالصلاء، وهو حر النار، إذا فتحت قصرت، وإن كسرت مددت، كأن المصلي يقوم نفسه، قال:
118 - فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلى عصاك كمستديم
ذكر ذلك جماعة أجلة وهو مشكل، فإن الصلاة من ذوات الواو وهذا من الياء.
[ ص: 95 ] و ومما رزقناهم جار ومجرور متعلق بـ"ينفقون"، و"ينفقون" معطوف على الصلة قبله، و"ما" المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون اسما بمعنى الذي، ورزقناهم صلتها، والعائد محذوف، قال : "تقديره: رزقناهموه أو رزقناهم إياه"، وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال؛ لأن تقديره متصلا يلزم منه اتصال الضمير مع اتحاد الرتبة، وهو واجب الانفصال، وتقديره منفصلا يمنع حذفه; لأن العائد متى كان منفصلا امتنع حذفه، نصوا عليه، وعللوه بأنه لم يفصل إلا لغرض، وإذا حذف فاتت الدلالة على ذلك الغرض. أبو البقاء
ويمكن أن يجاب عن الأول بأنه لما اختلف الضميران جمعا وإفرادا - وإن اتحدا رتبة - جاز اتصاله، ويكون كقوله:
119 - وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهماها يقرع العظم نابها
وأيضا فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظا به منعه مقدرا لزوال القبح اللفظي.
وعن الثاني بأنه إنما يمنع لأجل اللبس الحاصل، ولا لبس هنا.
الثاني: يجوز أن يكون نكرة موصوفة، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولة تقديرا واعتراضا وجوابا.
الثالث: أن تكون مصدرية، ويكون المصدر واقعا موقع المفعول أي: مرزوقا، وقد منع هذا الوجه قال: "لأن الفعل لا ينفق" من أن المصدر مراد به المفعول. أبو البقاء
[ ص: 96 ] والرزق لغة: العطاء، وهو مصدر، قال تعالى: ومن رزقناه منا رزقا حسنا وقال الشاعر:
120 - رزقت مالا ولم ترزق منافعه إن الشقي هو المحروم ما رزقا
وقيل: يجوز أن يكون "فعلا" بمعنى مفعول، نحو: ذبح ورعي، بمعنى مذبوح ومرعي.
وقيل: الرزق بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة الشكر ومنه: [ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون وسيأتي في موضعه] ، ونفق الشيء نفد، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت، قال - وهو كما قال - نحو: نفد نفق نفر نفذ نفس نفش نفث نفح نفخ نفض نفل، ونفق الشيء بالبيع نفاقا ونفقت الدابة: ماتت نفوقا: والنفقة: اسم المنفق. الزمخشري
و"من" هنا لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض، ولها معان أخر: بيان الجنس: فاجتنبوا الرجس من الأوثان والتعليل: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق والبدل: بالحياة الدنيا من الآخرة والمجاوزة: وإذ غدوت من أهلك وانتهاء الغاية قريب منه، والاستعلاء: ونصرناه [ ص: 97 ] من القوم والفصل: يعلم المفسد من المصلح وموافقة الباء وفي: ينظرون من طرف خفي ماذا خلقوا من الأرض والزيادة باطراد، وذلك بشرطين: كون المجرور نكرة، والكلام غير موجب، واشترط الكوفيون التنكير فقط، ولم يشترط شيئا. الأخفش
والهمزة في "أنفق" للتعدية، وحذفت من "ينفقون" لما تقدم في " يؤمنون " .