و "ما" في "ما أنزل" تحتمل الموصولة والنكرة الموصوفة، و "ترى" بصرية، فيكون قوله: "تفيض من الدمع" جملة في محل نصب على الحال. [ ص: 394 ] وقرئ شاذا: "ترى" بالبناء للمفعول، "أعينهم" رفعا، وأسند الفيض إلى الأعين مبالغة، وإن كان الفائض إنما هو دمعها لا هي، كقول امرئ القيس:
1802 - ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي
والمراد: المبالغة في وصفهم بالبكاء، أو يكون المعنى: أن أعينهم تمتلئ حتى تفيض؛ لأن الفيض ناشئ عن الامتلاء، كقوله:
1803 - قوارص تأتيني وتحتقرونها وقد يملأ الماء الإناء فيفعم
وإلى هذين المعنيين نحا فإنه قال: فإن قلت: ما معنى "تفيض من الدمع" ؟ قلت: معناه: تمتلئ من الدمع حتى تفيض؛ لأن الفيض أن يمتلئ الإناء حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها؛ أي: تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك: "دمعت عينه دمعا". أبو القاسم،
و "من الدمع" فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه متعلق بـ "تفيض"، ويكون معنى "من" ابتداء الغاية، والمعنى: تفيض من كثرة الدمع. والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من الفاعل في "تفيض"، قالهما ، [ ص: 395 ] وقدر الحال بقولك: مملوءة من الدمع، وفيه نظر؛ لأنه كون مقيد، ولا يجوز ذلك، فبقي أن يقدر كونا مطلقا؛ أي: تفيض كائنة من الدمع، وليس المعنى على ذلك، فالقول بالحالية لا ينبغي. فإن قيل: هل يجوز عند الكوفيين أن يكون "من الدمع" تمييزا؛ لأنهم لا يشترطون تنكير التمييز، والأصل: تفيض دمعا، كقولك: تفقأ زيد شحما، فهو من المنتصب عن تمام الكلام ؟ فالجواب: أن ذلك لا يجوز؛ لأن التمييز إذا كان منقولا من الفاعلية امتنع دخول "من" عليه، وإن كانت مقدرة معه، فلا يجوز: تفقأ زيد من شحم، وهذا - كما رأيت - مجرور بـ "من"، فامتنع أن يكون تمييزا، إلا أن أبو البقاء في سورة براءة جعله تمييزا في قوله تعالى: أبا القاسم تولوا وأعينهم تفيض من الدمع ، ولا بد من نقل نصه لتعرفه. قال رحمه الله تعالى: "تفيض من الدمع"، كقولك: تفيض دمعا، وهو أبلغ من قولك: يفيض دمعها؛ لأن العين جعلت كأنها دمع فائض، و "من" للبيان، كقولك: أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز. وفيه ما قد عرفته من المانعين، وهو كونه معرفة، وكونه جر بـ "من" وهو فاعل في الأصل، وسيأتي لهذا مزيد بيان، فعلى هذا تكون هذه الآية كتلك عنده، وهو الوجه الثالث. الرابع: أن "من" بمعنى الباء؛ أي: تفيض بالدمع، وكونها بمعنى الباء رأي ضعيف، وجعلوا منه أيضا قوله تعالى: ينظرون من طرف خفي ؛ أي: بطرف، كما أن الباء تأتي بمعنى من، كقوله:
1804 - شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج [ ص: 396 ]
أي: من ماء البحر.
قوله: مما عرفوا من الحق : "من" الأولى لابتداء الغاية وهي متعلقة بـ "تفيض"، والثانية يحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ أي: بينت جنس الموصول قبلها، ويحتمل أن تكون للتبعيض، وقد أوضح هذا غاية الإيضاح، قال رحمه الله: فإن قلت: أي فرق بين "من" و "من" في قوله: "مما عرفوا من الحق" ؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية، على أن الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه، والثانية لبيان الموصول الذي هو "ما عرفوا" وتحتمل معنى التبعيض، على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كله وقرؤوا القرآن وأحاطوا بالسنة. انتهى. ولم يتعرض لما يتعلق به الجاران، وهو يمكن أن يؤخذ من قوة كلامه، ولنزد ذلك إيضاحا، و "من" الأولى متعلقة بمحذوف على أنها حال من “الدمع"؛ أي: في حال كونه ناشئا ومبتدئا من معرفة الحق، وهو معنى قول أبو القاسم على أن الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، ولا يجوز أن يتعلق بـ "تفيض"؛ لئلا يلزم تعلق حرفين متحدين، لفظا ومعنى بعامل واحد، فإن "من" في "من الدمع" لابتداء الغاية كما تقدم، اللهم إلا أن يعتقد كون "من" في "من الدمع" للبيان، أو بمعنى الباء، فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضوح كالأول. وأما الزمخشري، "من الحق" فعلى جعله أنها للبيان تتعلق بمحذوف؛ أي: أعني: من كذا، وعلى جعله أنها للتبعيض تتعلق بـ "عرفوا"، وهو معنى قوله: عرفوا بعض الحق.
وقال في أبو البقاء "من الحق": إنه حال من العائد المحذوف على الموصول؛ أي: مما عرفوه كائنا من الحق، ويجوز أن تكون "من" في قوله [ ص: 397 ] تعالى: "مما عرفوا" تعليلية؛ أي: إن فيض دمعهم بسبب عرفانهم الحق، ويؤيده قول وكان من أجله وبسببه. فقد تحصل في "من" الأولى أربعة أوجه، وفي الثالثة ضعف أو منع كما تقدم، وفي "من" الثانية أربعة أيضا؛ وجهان بالنسبة إلى معناها، هل "من" ابتدائية أو تعليلية ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلق به، هل هو "تفيض" أو محذوف على أنها حال من الدمع، وفي الثالثة خمسة، اثنان بالنسبة إلى معناها، هل هي بيانية أو تبعيضية ؟ وثلاثة بالنسبة إلى متعلقها، هل هو محذوف وهو "أعني"، أو نفس "عرفوا"، أو هو حال، فتتعلق بمحذوف أيضا كما ذكره الزمخشري: . أبو البقاء
قوله: "يقولون" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستأنف فلا محل له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة الحسنة. الثاني: أنها حال من الضمير المجرور في "أعينهم"، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف جزؤه، فهو كقوله تعالى: ما في صدورهم من غل إخوانا . الثالث: أنه حال من فاعل "عرفوا"، والعامل فيها "عرفوا". قال الشيخ لما حكى كونه حالا: كذا قاله ابن عطية ، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها. قلت: أما وأبو البقاء فقد بين ذا الحال، فقال: "يقولون" حال من ضمير الفاعل في "عرفوا"، فقد صرح به، ومتى عرف ذو الحال عرف العامل فيها؛ لأن العامل في الحال هو العامل في صاحبها، فالظاهر أنه اطلع على نسخة مغلوطة من إعراب أبو البقاء سقط منها ما ذكرته لك، ثم إن الشيخ رد كونها حالا من الضمير في "أعينهم"، بما معناه أن الحال لا تجيء من المضاف إليه وإن كان [ ص: 398 ] المضاف جزأه، وجعله خطأ، وأحال بيانه على بعض مصنفاته، ورد كونها حالا أيضا من فاعل "عرفوا" بأنه يلزم تقييد معرفتهم الحق بهذه الحال، وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها، قال: فالأولى أن يكون مستأنفا، أما ما جعله خطأ، فالكلام معه في هذه المسألة في موضوع غير هذا، وأما قوله: "يلزم التقييد"، فالجواب: أنه إنما ذكرت هذه الحال؛ لأنها أشرف أحوالهم، فخرجت مخرج المدح لهم. وقوله: "ربنا آمنا" في محل نصب بالقول، وكذلك: أبي البقاء "فاكتبنا" إلى قوله: "الصالحين".