قوله: "ومهيمنا" الجمهور على كسر الميم الثانية، اسم فاعل، وهو حال من “الكتاب" الأول لعطفه على الحال منه وهي "مصدقا"، ويجوز في "مصدقا ومهيمنا" أن يكونا حالين من كاف "إليك"، وسيأتي تحقيق ذلك عند ذكر قراءة رحمه الله. و "عليه" متعلق "بمهيمن". والمهيمن: الرقيب، قال: مجاهد
1733 - إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب
والحافظ أيضا، قال:
1734 - مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وهو الشاهد أيضا. واختلفوا فيه؛ هل هو أصل بنفسه؛ أي: ليس مبدلا من شيء، يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن، كبيطر يبيطر فهو مبيطر، قال لم يجئ في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة ألفاظ: "مبيطر، ومسيطر، ومهيمن، ومحيمر"، وزاد أبو عبيدة: في شرحه [ ص: 288 ] لخطبة " أدب الكاتب " لفظا خامسا، وهو "مبيقر"، اسم فاعل من بيقر يبيقر؛ أي: خرج من أفق إلى أفق، أو لعب البيقري، وهي لعبة معروفة للصبيان، وقيل: إن هاءه مبدلة من همزة، وأنه اسم فاعل من آمن غيره من الخوف، والأصل: "ماآمن" بهمزتين، أبدلت الثانية ياء كراهية اجتماع همزتين، ثم أبدلت الأولى هاء، كـ "هراق، وهراح، وهبرت الثوب" في: أراق، وأراح، وأبرت الثوب، وهذا ضعيف أو فيه تكلف لا حاجة إليه، مع أن له أبنية يمكن إلحاقه بها، كمبيطر وإخوانه، وأيضا فإن همزة "ما آمن اسم فاعل من "آمن" قاعدتها الحذف، فلا يدعى فيها أثبتت ثم أبدلت هاء، هذا ما لا نظير له. وقد سقط أبو القاسم الزجاجي سقطة فاحشة، حيث زعم أن "مهيمنا" مصغر، وأن أصله: "مؤيمن"، تصغير "مؤمن" اسم فاعل، ثم قلبت همزته هاء كهراق، ويعزى ذلك ابن قتيبة أيضا. إلا أن لأبي العباس المبرد قال: وهذا حسن على طريق العربية، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى مهيمن: مؤمن. وهذا الذي قاله الزجاج [ واستحسنه، أنكره الناس عليه وعلى الزجاج ومن تبعهما ]، ولما بلغ المبرد أبا العباس هذا القول، أنكره أشد إنكار، وأنحى على ثعلبا وكتب إليه: أن اتق الله فإن هذا كفر أو ما أشبهه؛ لأن أسماء الله تعالى لا تصغر، وكذلك كل اسم معظم شرعا. وقال ابن قتيبة، إن ابن عطية: النقاش حكى أن ذلك لما بلغ فقال: إن ما قاله ثعلبا، رديء باطل، والوثوب على القرآن شديد، وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف، وإنما جمع الكتب من هوس غلبه. [ وقال ابن قتيبة وأصل مهيمن: مؤيمن؛ لأنه مشتق من [ ص: 289 ] الأمانة؛ لأن المهيمن الشاهد، وليس في الكلام "هيمن" حتى تكون الهاء أصلا، وهذا الذي قاله ليس بشيء لما تقدم من حكاية أهل اللغة: هيمن ]، وغاية ما في الباب أنهم لم يستعملوه إلا مزيدا فيه الياء، كبيطر وبابه. أبو البقاء:
وقرأ ابن محيصن "ومهيمنا" بفتح الميم الثانية على أنه اسم مفعول، بمعنى أنه حوفظ عليه من التبديل والتغيير، والفاعل هو الله تعالى: ومجاهد: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، أو الحافظ له في كل بلد، حتى إنه إذا غيرت منه الحركة تنبه لها الناس، وردوا على قارئها بالصواب، والضمير في "عليه" على هذه القراءة عائد على الكتاب الأول، وعلى القراءة المشهورة عائد على الكتاب الثاني. وروى ابن أبي نجيح عن قراءته بالفتح، وقال: معناه: مجاهد محمد مؤتمن على القرآن. قال فعلى هذا يكون "مهيمنا" حالا من الكاف في "إليك"، وطعن على هذا القول لوجود الواو في "ومهيمنا"؛ لأنها عطف على "مصدقا"، و "مصدقا" حال من الكتاب لا حال من الكاف؛ إذ لو كان حالا منها لكان التركيب: "لما بين يديك" بالكاف. الطبري:
قال الشيخ: وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، بعيد عن نظم القرآن، وتقدير "وجعلناك يا محمد مهيمنا" أبعد، يعني: أن هذين التأويلين يصلحان أن يكونا جوابين عن قول لكن الأول بعيد والثاني [ ص: 290 ] أبعد منه. وقال مجاهد، هنا بعد أن حكى قراءة ابن عطية وتفسيره مجاهد، محمدا عليه السلام أنه أمين على القرآن: قال وقوله: الطبري: "ومهيمنا" على هذا حال من الكاف في قوله: "إليك". قال: وهذا تأويل بعيد من المفهوم، قال: وغلط في هذه اللفظة على مجاهد، فإنه فسر تأويله على قراءة الناس: "مهيمنا" بكسر الميم الثانية، فبعد التأويل، الطبري - رحمه الله - إنما يقرأ هو ومجاهد وابن محيصن: "ومهيمنا" بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول، وهو حال من الكتاب معطوف على قوله: "مصدقا"، وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد عليه السلام. قال: وكذلك مشى رحمه الله، قلت: وما قاله مكي أبو محمد ليس فيه ما يرد على فإن الطبري، استشكل كون "مهيمنا" حالا من الكاف على قراءة الطبري وأيضا فقد قال مجاهد، بعد ذلك: ويحتمل أن يكون "مصدقا، ومهيمنا" حالين من الكاف في "إليك"، ولا يخص ذلك قراءة ابن عطية وحده كما زعم مكي، فالناس إنما استشكلوا كونهما حالين من كاف "إليك" لقلق التركيب، وقد تقدم ما فيه وما نقله الشيخ من التأويلين، وقوله: ولا يخص ذلك، كلام صحيح، وإن كان مجاهد التزمه، وهو الظاهر. مكي
و "عليه" في موضع رفع على قراءة ابن محيصن ومجاهد لقيامه مقام الفاعل، كذا قال قلت: هذا إذا جعلنا "مهيمنا" حالا من الكتاب، أما إذا جعلناه حالا من كاف "إليك"، فيكون القائم مقام الفاعل ضميرا مستترا يعود على النبي عليه السلام، فيكون "عليه" أيضا في محل نصب، كما لو قرئ به اسم فاعل. قوله: ابن عطية، "عما جاءك" فيه وجهان، أحدهما: [ ص: 291 ] - وبه قال - أنه حال؛ أي: عادلا عما جاءك، وهذا فيه نظر من حيث إن "عن" حرف جر ناقص لا يقع خبرا عن الجثة، فكذا لا يقع حالا عنها، وحرف الجر الناقص إنما يتعلق بكون مطلق لا بكون مقيد، لكن المقيد لا يجوز حذفه. والثاني: أن "عن" على بابها من المجاوزة، لكن بتضمين "تتبع" معنى: تتزحزح وتنحرف؛ أي: لا تنحرف متبعا. أبو البقاء
قوله: "من الحق" فيه أيضا وجهان، أحدهما: أنه حال من الضمير المرفوع في "جاءك". والثاني: أنه حال من نفس "ما" الموصولة، فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن تكون للبيان. قوله: "لكل": "كل" مضافة لشيء محذوف، وذلك المحذوف يحتمل أن يكون لفظة "أمة"؛ أي: لكل أمة، ويراد بهم جميع الناس من المسلمين واليهود والنصارى، ويحتمل أن يكون ذلك المحذوف "الأنبياء"؛ أي: لكل الأنبياء المقدم ذكرهم. و "جعلنا" يحتمل أن تكون متعدية لاثنين بمعنى: صيرنا، فيكون "لكل" مفعولا مقدما، و "شرعة" مفعول ثان. وقوله: "منكم" متعلق بمحذوف؛ أي: أعني: منكم، ولا يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ "كل" لوجهين، أحدهما: أنه يلزم منه الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: "جعلنا"، وهي جملة أجنبية ليس فيها تأكيد ولا تسديد، وما شأنه كذلك لا يجوز الفصل به. والثاني: أنه يلزم منه الفصل بين "جعلنا" وبين معمولها وهو "شرعة"، قاله وفيه نظر، فإن العامل في "لكل" غير أجنبي، ويدل على ذلك قوله: أبو البقاء، أغير الله أتخذ وليا فاطر ، ففصل بين الجلالة وصفتها بالعامل في المفعول الأول، وهذا نظيره. وقرأ إبراهيم النخعي "شرعة" بفتح الشين، كأن المكسور [ ص: 292 ] للهيئة والمفتوح مصدر. والشرعة في الأصل: السنة، ومنه: ويحيى بن وثاب: شرع لكم من الدين ؛ أي: سن. والشارع: الطريق، وهو من الشريعة التي هي في الأصل: الطريق الموصل إلى الماء، ومنه قوله:
1735 - وفي الشرائع من جلان مقتنص بالي الثياب خفي الصوت منزرب
والمنهاج: مشتق من الطريق النهج وهو الواضح، ومنه قوله:
1736 - من يك ذا شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج
أي: واضح، يقال: طريق منهج ونهج. وقال منهاج: مثال مبالغة من نهج، يعني: نحو قولهم: إنه لمنحار بوائكها، وهو حسن، وهل الشرعة والمنهاج بمعنى، كقوله: ابن عطية:
1737 - ... ... ... ... وهند أتى من دونها النأي والبعد
[ وكقوله: ]
1738 - ... ... ... ... وألفى قولها كذبا ومينا
أو مختلفان ؟ فالشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر، قاله أو الشرعة الطريق واضحا كان أو غير واضح، والمنهاج الطريق الواضح فقط، فالأول أعم، قاله المبرد، أو الدين والدليل ؟ خلاف مشهور. ابن الأنباري،
قوله: "ولكن ليبلوكم": "ليبلوكم" متعلق بمحذوف، فقدره ولكن فرقكم ليبلوكم، وقدره غيره: ولكن لم يشأ جعلكم أمة واحدة، وهذا أحسن لدلالة اللفظ والمعنى عليه. و "جميعا" حال من "كم" في "مرجعكم"، والعامل في هذه الحال: إما المصدر المضاف إلى "كم"، فإن "كم" يحتمل أن يكون فاعلا، والمصدر ينحل لحرف مصدري وفعل مبني للفاعل، والأصل: ترجعون جميعا، ويحتمل أن يكون مفعولا لم يسم فاعله على أن المصدر ينحل لفعل مبني للمفعول؛ أي: يرجعكم الله، وقد صرح بالمعنيين في مواضع، وإما أن يعمل فيها الاستقرار المقدر في الجار وهو "إليه"، و " إليه مرجعكم " يحتمل أن يكون من باب الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية، وهذا واضح بما تقدم في نظائره، و أبو البقاء: "فينبئكم" هنا من "نبأ" غير متضمنة معنى "أعلم"، فلذلك تعدت لواحد بنفسها وللآخر بحرف الجر.