الثاني: أن هذا الجار خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء، وهو في المعنى جواب لسؤال مقدر، كأنهم لما حثوا على الصدقات قالوا: فلمن هي؟ فأحثوا بأنها لهؤلاء، وفيها فائدة بيان مصرف الصدقات. وهذا اختيار قال: "كما تقول: "عاقل لبيب"، وقد تقدم وصف رجل، أي: الموصوف عاقل، وتكتبون على الأكياس: "ألفان ومئتان"، أي: الذي في الكيس ألفان. وأنشد: ابن الأنباري
1081 - تسألني عن زوجها أي فتى خب جروز وإذا جاع بكى
يريد: هو خب.الثالث: أن اللام تتعلق بقوله: "إن تبدوا الصدقات" وهو مذهب واستبعده الناس لكثرة الفواصل. القفال،
الرابع: أنه متعلق بقوله: "وما تنفقوا من خير" وفي هذا نظر من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب، فيصير نظير قولك: "من يكرم أحسن إليه زيدا". وقد صرح بالمنع من ذلك - معللا بما ذكرته - فقال: "ولا يجوز أن يكون العامل في هذه اللام "تنفقوا" [ ص: 617 ] الأخير في الآية المتقدمة، لأنه لا يفصل بين العامل والمعمول بما ليس منه كما لا يجوز: "كانت زيدا الحمى تأخذ". الواحدي
الخامس: أن "للفقراء" بدل من قوله: "فلأنفسكم"، وهذا مردود قال وغيره: "لأن بدل الشيء من غيره لا يكون إلا والمعنى مشتمل عليه، وليس كذلك ذكر النفس ههنا، لأن الإنفاق من حيث هو عائد عليها، وللفقراء من حيث هو واصل إليهم، وليس من باب الواحدي "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" لأن الأمر لازم للمستطيع خاصة" قلت: يعني أن الفقراء ليست هي الأنفس ولا جزءا منها ولا مشتملة عليها، وكأن القائل بذلك توهم أنه من باب قوله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم" في أحد التأويلين.
والفقير: قيل: أصله من "فقرته الفاقرة" أي: كسرت فقار ظهره الداهية. قال "وأصل الفقير: هو المكسور الفقار، يقال: "فقرته الفاقرة" أي: الداهية تكسر الفقار، و "أفقرك الصيد فارمه" أي أمكنك من فقاره. وقيل: هو من الفقرة أي الحفرة، ومنه قيل لكل حفرة يجتمع فيها الماء: فقير. وفقرت للغسيل حفرت له حفرة: غرسته فيها. قال: الراغب:
1082 - ما ليلة الفقير إلا شيطان ... ... ... ...
قيل: هو اسم بئر. وفقرت الخرز: ثقبته. وقال الهروي: يقال "فقره" [ ص: 618 ] إذا أصاب فقار ظهره نحو: رأسه أي: أصاب رأسه، وبطنه: أي أصاب بطنه. وقال "الفقر: أن يحز أنف البعير حتى يخلص الحز إلى العظم، ثم يلوى عليه الأصمعي: جرير يذلل به الصعب من الإبل، ومنه قيل: عمل به الفاقرة". والفقرات - بكسر الفاء وفتح القاف -: جمع فقرة: الأمور العظام، ومنه حديث السعي: "فقرات ابن آدم ثلاث: يوم ولد ويوم يموت، ويوم يبعث" والفقر: بضم الفاء وفتح القاف - جمع فقرة وهي الحز وخرم الخطم، ومنه قول أبي زياد: "يفتقر الصعب ثلاث فقر في خطمه" ومنه حديث سعد: "فأشار إلى فقر في أنفه" أي شق وحز. وقد تقدم الكلام في الإحصار، والفرق بين فعل وأفعل منه.
قوله: "في سبيل" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالفعل قبله فيكون ظرفا له. والثاني: أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من مرفوع "أحصروا" أي: مستقرين في سبيل الله. وقدره بمجاهدين في سبيل الله" فهو تفسير معنى لا إعراب، لأن الجار لا يتعلق إلا بالكون المطلق. أبو البقاء
قوله: "لا يستطيعون" في هذه الجملة احتمالان، أظهرهما: أنها [ ص: 619 ] حال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه "الفقراء" وثانيهما: أنه مرفوع "أحصروا". والاحتمال الثاني: أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب. و "ضربا" مفعول به، وهو هنا السفر للتجارة، قال:
1083 - لحفظ المال أيسر من بقاه وضرب في البلاد بغير زاد
قوله: "يحسبهم" يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف، وكذلك ما بعدها. وقرأ ابن عامر وعاصم "يحسب" - حيث ورد - بفتح السين والباقون بكسرها. فأما القراءة الأولى فجاءت على القياس، لأن قياس فعل بكسر العين يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخف اللفظ، وهي لغة تميم والكسر لغة وحمزة: الحجاز، وبها قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شذت ألفاظ أخر جاءت في الماضي والمضارع بكسر العين منها نعم ينعم، وبئس يبئس، ويئس ييئس، ويبس ييبس من اليبوسة، وعمد يعمد، وقياسها كلها الفتح، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة - وكفى به - أبو عمرو وقارئا الحرمين والكسائي، نافع والجاهل هنا: اسم جنس لا يراد به واحد بعينه. و "أغنياء" هو المفعول الثاني. وابن كثير.
قوله: "من التعفف" في "من" هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها سببية، أي: سبب حسبانهم أغنياء تعففهم فهو مفعول من أجله، وجره بحرف السبب هنا واجب لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل، وذلك أن فاعل [ ص: 620 ] الحسبان الجاهل، وفاعل التعفف هم الفقراء، ولو كان هذا المفعول له مستكملا لشروط النصب لكان الأحسن جره بالحرف لأنه معرف بأل، وقد تقدم أن جر هذا النوع أحسن من نصبه، نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبه، قال:
1084 - لا أقعد الجبن عن الهيجاء ولو توالت زمر الأعداء
وتتعلق "من" على الوجهين الأولين بـ يحسبهم. قال "ولا يجوز أن تتعلق بمعنى "أغنياء" لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود وذلك أن معنى الآية أن حالهم يخفى على الجاهل بهم فيظنهم أغنياء، ولو علقت "من" بأغنياء صار المعنى أن الجاهل يظن أنهم أغنياء ولكن بالتعفف، والغني بالتعفف فقير في المال". انتهى، وما قاله أبو البقاء: يحتمل بحثا. أبو البقاء
وأما على الوجه الثالث - وهو كونها لبيان الجنس - فقد صرح الشيخ بتعلقها بأغنياء، لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة فكونها لبيان الجنس قلق المعنى.
والتعفف: تفعل من العفة، وهي ترك الشيء، والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه، قال رؤبة:
1085 - فعف عن أسرارها بعد الغسق ولم يدعها بعد فرك وعشق
1086 - يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم
[ ص: 622 ] قوله: "تعرفهم بسيماهم" السيما - العلامة ويجوز مدها وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق: إما واو، وإما ياء، فهي كعلباء ملحقة بسرداح، فالهمزة للإلحاق لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك.
و "سيما" مقلوبة قدمت عينها على فائها لأنها مشتقة من الوسم فهي بمعنى السمة أي العلامة، فلما وقعت الواو بعد كسرة قلبت ياء، فوزن سيما: عفلا، كما يقال اضمحل، وامضحل، [و] "وخيمة" و "خامة"، وله جاه ووجه، أي: وجاهة.
وفي الآية طباق في موضعين، أحدهما: "أحصروا" مع قوله: "ضربا في الأرض"، والثاني قوله "أغنياء" مع قوله "للفقراء" نحو: "أضحك وأبكى"" و أمات وأحيا". ويقال "سيميا" بياء بعد الميم، وتمد كالكيمياء. وأنشد:
1087 - غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
قوله: "إلحافا" في نصبه ثلاثة أوجه، أحدها: نصبه على المصدر بفعل مقدر أي: يلحفون إلحافا، والجملة المقدرة حال من فاعل "يسألون" والثاني: أن يكون مفعولا من أجله، أي: لا يسألون لأجل الإلحاف. والثالث: أن يكون مصدرا في موضع الحال تقديره: لا يسألون ملحفين. [ ص: 623 ] واعلم أن العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد، نحو: "ما رأيت رجلا صالحا"، الأكثر على أنك رأيت رجلا ولكن ليس بصالح، ويجوز أنك لم تر رجلا البتة لا صالحا ولا طالحا، فقوله: "لا يسألون الناس إلحافا" المفهوم أنهم يسألون لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يسألون ولا يلحفون، والمعنيان منقولان في التفسير. والأرجح الأول عندهم، ومثله في المعنى: "ما تأتينا فتحدثنا" يجوز أنه يأتيهم ولا يحدثهم، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدثهم، انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى المسبب وهو الحديث.
وقد شبه - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت الزجاج امرئ القيس وهو قوله:
1088 - على لاحب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
قلت: قد سبقه إلى هذا فقال: "تشبيهه ليس مثله خصوصية النفي، لأن انتفاء المنار في البيت يدل على نفي الهداية، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال." وأطال ابن عطية في تقرير هذا وجوابه ما تقدم: من أن المراد نفي الشيئين لا بالطريق المذكور في البيت، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفا: "ونظير هذا: ما تأتينا فتحدثنا" فعلى الوجه الأول يعني نفي القيد وحده: ما تأتينا محدثا، إنما تأتي ولا تحدث، وعلى الوجه الثاني يعني نفي الحكم بقيده بـ "ما يكون منك إتيان فلا يكون حديث"، وكذلك هذا: لا يقع منهم سؤال البتة فلا يقع إلحاح، ونبه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ووجود غيره; لأنه كان يصير المعنى الأول، وإنما يراد بنفي هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول، لأنه نفى الأول على سبيل العموم فتنتفي مترتباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان فانتفى الحديث انتفى جميع مترتبات الإتيان من المجالسة والمشاهدة والكينونة في محل واحد، ولكن نبه بذكر مترتب واحد لغرض ما على ذكر سائر المترتبات" قلت: وهو تقرير لما تقدم. ابن عطية
[ ص: 625 ] وأما فكأنه لم يرتض تشبيه الزمخشري فإنه قال: "وقيل: هو نفي للسؤال، والإلحاف جميعا كقوله: الزجاج،
على لاحب لا يهتدى بمناره ... ... ... ...
يريد نفي المنار والاهتداء به".
وطريق هذه قد قبلها الناس ونصروها واستحسنوا تنظيرها بالبيت أبي إسحاق الزجاج كالفارسي قال وأبي بكر بن الأنباري، "لم يثبت في قوله: أبو علي: "لا يسألون الناس إلحافا" مسألة فيهم، لأن المعنى: ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف، ومثل ذلك قول الشاعر:
1089 - لا يفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
1090 - وصم صلاب ما يقين من الوجى كأن مكان الردف منه على رال
[ ص: 626 ]
1091 – لا يغمز الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر
والإلحاف والإلحاح واللجاج والإحفاء، كله بمعنى، يقال: ألحف وألح في المسألة: إذا لج فيها. وفي الحديث: واشتقاقه من اللحاف، لأنه يشتمل الناس بمسألته ويعمهم، كما يشتمل اللحاف من تحته ويغطيه، ومنه قول "من سأل وله أربعون فقد ألحف"، ابن أحمر يصف ذكر نعام يحضن بيضه بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف:
1092 - يظل يحفهن بقفقفيه ويلحفهن هفهافا ثخينا
1093 - ثم راحوا عبق المسك بهم يلحفون الأرض هداب الأزر