وقرأ عن البزي بخلاف عنه " استايسوا " بألف بعد التاء ثم ياء ، وكذلك في هذه السورة : " لا تايسوا " ، إنه لا يايس (إذا استايس الرسل) ، وفي الرعد : (أفلم يايس الذين) الخلاف واحد . فأما قراءة العامة فهي الأصل إذ يقال : يئس ، فالفاء ياء ، والعين همزة ، وفيه لغة أخرى وهي القلب بتقديم العين على الفاء فيقال : أيس ، ويدل على ذلك شيئان ، أحدهما : المصدر الذي هو اليأس . والثاني : أنه لو لم يكن مقلوبا للزم قلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولكن منع من ذلك كون الياء في موضع لا تعل فيه ما وقعت موقعه ، وقراءة ابن كثير من هذا ، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفا لسكونها بعد فتحة إذ صارت كهمزة رأس وكأس ، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة الساكنة حرف علة ، وهذا كما تقدم أنه يقرأ " القرآن " بالألف ، وأنه يحتمل أن يكون نقل حركة الهمزة وإن لم يكن من أصله النقل . ابن كثير
[ ص: 538 ] وقال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلمات الخمس التي وقع فيها الخلاف : " وكذلك رسمت في المصحف " يعني كما قرأها ، يعني بألف مكان الياء وبياء مكان الهمزة . وقال البزي أبو عبد الله : " واختلفت هذه الكلمات في الرسم فرسم " يابس " " ولا تايسوا " بالألف ، ورسم الباقي بغير ألف " قلت : وهذا هو الصواب ، وكأنها غفلة حصلت من أبي شامة رحمه الله .
قوله : نجيا حال من فاعل " خلصوا " أي : اعتزلوا في هذه الحال ، وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع : إما لأن النجي فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المخالط والمعاشر ، كقوله : وقربناه نجيا أي : مناجيا ، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقا ، يقال : هم خليطك وعشيرك أي : مخالطوك ومعاشروك ، وإما لأنه صفة على فعيل بمنزلة صديق ، وصديق وبابه يوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوجيب والذميل ، وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل : النجوى بمعناه ، قال تعالى : وإذ هم نجوى ، وحينئذ يكون فيه التأويلات المذكورة في " رجل عدل " وبابه ، ويجمع على " أنجية " ، وكان من حقه إذا جعل وصفا أن يجمع على أفعلاء كغني وأغنياء وشقي وأشقياء . ومن مجيئه على أنجية قول الشاعر : [ ص: 539 ]
2816 - إني إذا ما القوم كانوا أنجيه ... ... ... ...
وقول الآخر وهو لبيد : 2817 - وشهدت أنجية الأفاقة عاليا كعبي وأرداف الملوك شهود
قوله : ومن قبل ما فرطتم في هذه الآية وجوه ستة ، أحدها : وهو الأظهر أن " ما " مزيدة ، فيتعلق الظرف بالفعل بعدها ، والتقدير : ومن قبل هذا فرطتم ، أي : قصرتم في حق يوسف وشأنه ، وزيادة " ما " كثيرة ، وبه بدأ وغيره . الزمخشري
الثاني : أن تكون " ما " مصدرية في محل رفع بالابتداء ، والخبر الظرف المتقدم . قال : " على أن محل المصدر الرفع بالابتداء ، والخبر الظرف ، وهو " من قبل " ، والمعنى : وقع من قبل تفريطكم في الزمخشري يوسف ، وإلى هذا نحا أيضا فإنه قال : " ولا يجوز أن يكون قوله " من قبل " متعلقا بـ ابن عطية " ما فرطتم " ، وإنما تكون على هذا مصدرية ، والتقدير : من قبل تفريطكم في يوسف واقع أو مستقر ، وبهذا المقدر يتعلق قوله " من قبل " . قال الشيخ : " وهذا وقول راجعان إلى معنى واحد وهو أن الزمخشري " ما فرطتم " يقدر [ ص: 540 ] بمصدر مرفوع بالابتداء ، و " من قبل " في موضع الخبر ، وذهلا عن قاعدة عربية وحق لهما أن يذهلا وهو أن هذه الظروف التي هي غايات إذا بنيت لا تقع أخبارا للمبتدأ جرت أو لم تجر تقول : " يوم السبت مبارك ، والسفر بعده " ، ولا تقول : " والسفر بعد ، وعمرو وزيد خلفه " ، ولا يجوز : " زيد وعمرو خلف " وعلى ما ذكراه يكون " تفريطكم " مبتدأ ، و " من قبل " خبر [وهو مبني] وذلك لا يجوز ، وهو مقرر في علم العربية " .
قلت : قوله " وحق لهما أن يذهلا " تحامل على هذين الرجلين المعروف موضعهما من العلم . وأما قوله " إن الظرف المقطوع لا يقع خبرا فمسلم ، قالوا لأنه لا يفيد ، وما لا يفيد فلا يقع خبرا ، ولذا لا يقع صلة ولا صفة ولا حالا ، لو قلت : " جاء الذي قبل " ، أو " مررت برجل قبل " لم يجز لما ذكرت . ولقائل أن يقول : إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة ، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف ، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوما مدلولا عليه أن يقع ذلك الظرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبرا وصفة وصلة وحالا ، والآية الكريمة من هذا القبيل ، أعني مما علم فيه المضاف إليه كما مر تقريره . ثم هذا الرد الذي رد به الشيخ سبقه إليه فقال : " وهذا ضعيف ؛ لأن " قبل " إذا وقعت خبرا أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة . أبو البقاء
الثالث : أنها مصدرية أيضا في محل رفع بالابتداء ، والخبر هو قوله : " في يوسف " ، أي : وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف ، وإلى هذا ذهب ، كأنه استشعر أن الظرف المقطوع لا يقع خبرا فعدل إلى هذا ، [ ص: 541 ] وفيه نظر ؛ لأن السياق والمعنى يجريان إلى تعلق الفارسي " في يوسف " ب " فرطتم " فالقول بما قاله يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه . الفارسي
الرابع : أنها مصدرية أيضا ، ولكن محلها النصب على أنها منسوقة على أن أباكم قد أخذ ، أي : ألم تعلموا أخذ أبيكم الميثاق وتفريطكم في يوسف . قال : " كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم من قبل في الزمخشري يوسف " . وإلى هذا ذهب أيضا . ابن عطية
قال الشيخ : " وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد ، لأن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد وبين المعطوف ، فصار نظير : " ضربت زيدا وبسيف عمرا " ، وقد زعم أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر " . قلت : " هذا الرد أيضا سبقه إليه أبو علي الفارسي ولم يرتضه وقال : " وقيل : هو ضعيف لأن فيه الفصل بين حرف العطف والمعطوف ، وقد بينا في سورة النساء أن هذا ليس بشيء " . قلت : يعني أن منع الفصل بين حرف العطف والمعطوف ليس بشيء ، وقد تقدم إيضاح ذلك وتقريره في سورة النساء كما أشار إليه أبو البقاء . أبو البقاء
ثم قال الشيخ : " وأما تقدير " وتفريطكم من قبل في الزمخشري يوسف " فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه ، وهو لا يجوز " . قلت : ليس في تقدير شيء من ذلك ؛ لأنه لما صرح بالمقدر أخر الجارين والمجرورين عن لفظ المصدر المقدر [ ص: 542 ] كما ترى ، وكذا هو في سائر النسخ ، وكذا ما نقله الشيخ عنه بخطه ، فأين تقديم المعمول على المصدر ؟ ولو رد عليه وعلى الزمخشري بأنه يلزم من ذلك تقديم معمول الصلة على الموصول لكان ردا واضحا ، فإن " من قبل " متعلق بفرطتم ، وقد تقدم على " ما " المصدرية ، وفيه خلاف مشهور . ابن عطية
الخامس : أن تكون مصدرية أيضا ، ومحلها نصب عطفا على اسم " أن " ، أي : ألم تعلموا أن أباكم وأن تفريطكم من قبل في يوسف ، وحينئذ يكون في خبر " أن " هذه المقدرة وجهان ، أحدهما وهو " من قبل " ، والثاني هو " في يوسف " ، واختاره ، وقد تقدم ما في كل منهما . ويرد على هذا الوجه الخامس بما رد به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف والمعطوف وقد عرف ما فيه . أبو البقاء
السادس : أن تكون موصولة اسمية ، ومحلها الرفع أو النصب على ما تقدم في المصدرية ، قال : " بمعنى : ومن قبل هذا ما فرطتموه ، أي : قدمتموه في حق يوسف من الجناية ، ومحلها الرفع أو النصب على الوجهين " . الزمخشري
قلت : يعني بالوجهين رفعها بالابتداء وخبرها " من قبل " ، ونصبها عطفا على مفعول " ألم تعلموا " ، فإنه لم يذكر في المصدرية غيرهما . وقد عرفت ما اعترض به عليهما وما قيل في جوابه . فتحصل في " ما " ثلاثة أوجه : الزيادة ، وكونها مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وأن في محلها وجهين : الرفع أو النصب ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله .
قوله : فلن أبرح الأرض " برح " هنا تامة ضمنت معنى " أفارق " فـ " الأرض " مفعول به ، ولا يجوز أن تكون تامة من غير تضمين ، لأنها إذا [ ص: 543 ] كانت كذلك كان معناها ظهر أو ذهب ، ومنه " برح الخفاء " ، أي : ظهر أو ذهب ومعنى الظهور لا يليق ، والذهاب لا يصل إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة " في " تقول : ذهبت في الأرض ، ولا يجوز : ذهبت الأرض ، وقد جاء شيء لا يقاس عليه . وقال : " ويجوز أن يكون ظرفا " . قلت : ويحتمل أن يكون سقط من النسخ لفظة " لا " ، وكان : " ولا يجوز أن تكون ظرفا " . أبو البقاء
واعلم أنه لا يجوز في " أبرح " هنا أن تكون ناقصة لأنه لا ينتظم من الضمير الذي فيها ومن " الأرض " مبتدأ أو خبر ، ألا ترى أنك لو قلت : " أنا الأرض " لم يجز من غير " في " ؛ بخلاف " أنا في الأرض " و " زيد في الأرض " .
قوله : أو يحكم الله في نصبه وجهان ، أحدهما : وهو الظاهر عطفه على " يأذن " . والثاني : أنه منصوب بإضمار " أن " في جواب النفي وهو قوله " فلن أبرح " ، أي : لن أبرح الأرض إلا أن يحكم كقولهم : " لألزمنك أو تقضيني حقي " ، أي : إلا أن تقضيني . قال الشيخ : " ومعناه ومعنى الغاية متقاربان " . قلت : وليس المعنى على الثاني ، بل سياق المعنى على عطفه على " يأذن " فإنه غيى الأمر بغايتين ، أحدهما خاصة ، وهي إذن الله ، والثانية عامة ؛ لأن إذن الله له في الانصراف هو من حكم الله .