قوله: "هو موليها" جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع لأنها صفة لوجهة، واختلف في "هو" على قولين، أحدهما: أنه يعود على لفظ "كل" لا على معناها ولذلك أفرد، والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره هو موليها وجهه أو نفسه، ويؤيد هذا قراءة "مولاها" على ما لم يسم فاعله كما سيأتي. والثاني: أنه يعود على الله تعالى أي: الله مولي القبلة إياه، أي ذلك الفريق. ابن عامر:
وقرأ الجمهور: "موليها" على اسم فاعل، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه، وقرأ - ويعزى ابن عامر - مولاها على اسم المفعول، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل، والثاني هو الضمير المتصل به وهو "ها" العائد على الوجهة، وقيل: على التولية ذكره لابن عباس وعلى هذه القراءة يتعين عود "هو" إلى الفريق، إذ يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى، وقرأ [ ص: 174 ] بعضهم: "ولكل وجهة" "بالإضافة، ويعزى أبو البقاء، لابن عامر، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال أحدها: - وهو قول -: أنها خطأ وهذا ليس بشيء، إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا يسهل. والثاني - وهو قول الطبري الزمخشري أن اللام زائدة في الأصل، قال وأبي البقاء: "المعنى وكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه". الزمخشري:
قال الشيخ: وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور باللام لا تقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه، لئلا يلزم أحد محذورين، وهما: إما لأنه يكون العامل قويا ضعيفا، وذلك أنه من حيث تعدى للضمير بنفسه يكون قويا ومن حيث تعدى للظاهر باللام يكون ضعيفا، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعديا لاثنين، ولذلك تأول النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله:
771 - هذا سراقة للقرآن يدرسه والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب
على أن الضمير في "يدرسه" للمصدر، أي: يدرس الدرس لا للقرآن، لأن الفعل قد تعدى إليه. وأما تمثيله بقوله: "لزيد ضربت" فليس نظير الآية [ ص: 175 ] لأنه لم يتعد في هذا المثال إلى ضميره، ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال، فتقدر عاملا في "لكل وجهة" يفسره "موليها" لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجرورا بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق العامل الظاهر في المعنى، ولا يجوز جر المشتغل عنه بحرف، تقول: زيدا مررت به أي: لابست زيدا مررت به، ولا يجوز: لزيد مررت به، قال تعالى: "والظالمين أعد لهم" وقال:
772 - أثعلبة الفوارس أم رياحا عدلت بهم طهية والخشابا
فأتى بالمشتغل عنه منصوبا، وأما تمثيله بقوله: لزيد أبوه ضاربه فتركيب غير عربي.
الثالث: أن "لكل وجهة" متعلق بقوله: "فاستبقوا الخيرات" أي:فاستبقوا الخيرات لكل وجهة، وإنما قدم على العامل للاهتمام به، كما يقدم المفعول، ذكره ولا يجوز أن توجه هذه القراءة على أن ابن عطية، "ولكل وجهة" في موضع المفعول الثاني لموليها، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو "مول" وهو "ها"، وتكون عائدة على الطوائف، ويكون التقدير: وكل وجهة الله مولي الطوائف أصحاب القبلات، وزيدت اللام في المفعول لتقدمه ويكون العامل فرعا; لأن النحويين نصوا على أنه لا يجوز زيادة اللام للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط، و "مول" مما يتعدى لاثنين، فامتنع ذلك فيه. وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن فيما اعترض به عليه الشيخ من كون الفعل إذا تعدى للظاهر فلا يتعدى لضميره، [ ص: 176 ] وهو أنه كان يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل بـ "مول" ليس بضمير المفعول بل ضمير المصدر وهو التولية، ويكون المفعول الأول محذوفا، والتقدير: الله "مولي التولية كل وجهة أصحابها، فلما قدم المفعول على العامل قوي باللام لولا أنهم نصوا على المنع من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة. الزمخشري
قوله: "فاستبقوا الخيرات" " الخيرات " منصوبة على إسقاط حرف الجر، التقدير: إلى الخيرات ، كقول الراعي:
773 - ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل سواكم فإني مهتد غير مائل
أي: إلى سواكم، وذلك لأن "استبق": إما بمعنى سبق المجرد أو بمعنى تسابق، لا جائز أن يكون بمعنى سبق لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات، فبقي أن يكون بمعنى تسابق ولا يتعدى بنفسه.
والخيرات جمع: خيرة وفيهما احتمالان: أحدهما: أن تكون مخففة من "خيرة" بالتشديد بوزن فيعلة نحو: ميت في ميت. والثاني: أن تكون غير مخففة، بل تثبت على فعلة بوزن جفنة، يقال: رجل خير وامرأة خير، وعلى كلا التقديرين فليسا للتفضيل. والسبق: الوصول إلى الشيء أولا، وأصله التقدم في السير، ثم تجوز به في كل تقدم.
قوله: "أينما تكونوا" "أين" اسم شرط تجزم فعلين كإن و "ما" مزيدة عليها على سبيل الجواز، وهي ظرف مكان، وهي هنا في محل نصب خبر لكان، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ماله صدر الكلام، و "تكونوا" مجزوم بها على الشرط، وهو الناصب لها، و "يأت" جوابها، وتكون أيضا استفهاما فلا تعمل شيئا، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام.