لما أخبر سبحانه وتعالى عن فعله معهم من الانتقام ممن تعدى حدوده فيهم، ومن الرفق بهم بما هو غاية في الحكمة، فكان معرفا بأن فاعله لا يترك الناس سدى من غير جزاء، وأمرهم آخر
قريش بشكر نعمته بإفراده بالعبادة، عرفهم أول هذه أن ذلك لا يتهيأ إلا بالتصديق
[ ص: 276 ] بالجزاء الحامل على معالي الأخلاق الناهي عن مساوئها، وعجب ممن يكذب بالجزاء مع وضوح الدلالة عليه بحكمة الحكيم، ووصف المكذب [به -] بأوصاف هم منها في غاية النفرة، وصوره بأشنع صورة بعثا لهم على التصديق وزجرا عن التكذيب، فقال خاصا بالخطاب رأس الأمة إشارة إلى أنه لا يفهم هذا الأمر حق فهمه غيره:
nindex.php?page=treesubj&link=28760_32358_29078nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=1أرأيت أي أخبرني يا أكمل الخلق
nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=1الذي يكذب أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائنا من كان
nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=1بالدين أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق الناهي عن سيئها، ومن كذب بأحدهما كذب بالآخر: ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني، المتعدي إلى مفعولين، كان تقدير المفعول الثاني: أليس جديرا بالانتقام منه.
وقال الإمام
أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت السور المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر فيها مما هو جار على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت كقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=100&ayano=6إن الإنسان لربه لكنود nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=2إن الإنسان لفي خسر nindex.php?page=tafseer&surano=104&ayano=3يحسب أن ماله أخلده وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية ما ذكر فيها أيضا كالشغل
[ ص: 277 ] بالتكاثر، والطعن على الناس ولمزهم والاغترار المهلك أصحاب الفيل أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين إلى الإسلام أو يوجد بعضها أو أعمال من يتصف بها وإن لم يكن من أهلها كدع اليتيم، وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به، وعدم الحض على طعام المسكين، والتغافل عن الصلاة والسهو عنها، والرياء بالأعمال والزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى بعض، ويمكن أن يتضمن إبهام الماعون هذا كله، ولا شك أن هذه الصفات توجد في المتسمين بالإسلام، فأخبر سبحانه وتعالى أنه [من] صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب، أي إن هؤلاء هم أهلها، ومن هذا القبيل قوله عليه الصلاة والسلام "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650033أربع من كن فيه كان منافقا خالصا " وقوله عليه الصلاة والسلام "
nindex.php?page=hadith&LINKID=652295لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة، وقد بسطته في كتاب "إيضاح السبيل من حديث سؤال
جبريل " فمن هذا القبيل عندي - والله أعلم - قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=1أرأيت الذي يكذب بالدين nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=2فذلك الذي يدع اليتيم أي أن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة عليه، وعدم الحض على إطعامه والسهو عن الصلاة والمراءاة بالأعمال ومنع الحاجات إن
[ ص: 278 ] هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه، فمن تشبه بقوم فهو منهم، فاحذروا هذه الرذائل فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر، والشغل بالأموال والأولاد، فنهى عباده عن هذه الرسائل التي يثمرها ما تقدم والتحمت السور - انتهى.
لَمَّا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ فِعْلِهِ مَعَهُمْ مِنَ الِانْتِقَامِ مِمَّنْ تَعَدَّى حُدُودَهُ فِيهِمْ، وَمِنَ الرِّفْقِ بِهِمْ بِمَا هُوَ غَايَةٌ فِي الْحِكْمَةِ، فَكَانَ مُعَرَّفًا بِأَنَّ فَاعِلَهُ لَا يَتْرُكُ النَّاسَ سُدًى مِنْ غَيْرِ جَزَاءٍ، وَأَمْرَهُمْ آخِرَ
قُرَيْشٍ بِشُكْرِ نِعْمَتِهِ بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، عَرَّفَهُمْ أَوَّلَ هَذِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَهَيَّأُ إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ
[ ص: 276 ] بِالْجَزَاءِ الْحَامِلِ عَلَى مَعَالِي الْأَخْلَاقِ النَّاهِي عَنْ مَسَاوِئِهَا، وَعَجِبَ مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِالْجَزَاءِ مَعَ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِحِكْمَةِ الْحَكِيمِ، وَوَصَفَ الْمُكَذِّبُ [بِهِ -] بِأَوْصَافٍ هُمْ مِنْهَا فِي غَايَةِ النَّفْرَةِ، وَصَوَّرَهُ بِأَشْنَعِ صُورَةٍ بَعْثًا لَهُمْ عَلَى التَّصْدِيقِ وَزَجْرًا عَنِ التَّكْذِيبِ، فَقَالَ خَاصًّا بِالْخِطَابِ رَأْسَ الْأُمَّةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَفْهَمُ هَذَا الْأَمْرَ حَقَّ فَهْمِهِ غَيْرُهُ:
nindex.php?page=treesubj&link=28760_32358_29078nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=1أَرَأَيْتَ أَيْ أَخْبَرَنِي يَا أَكْمَلَ الْخَلْقِ
nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=1الَّذِي يُكَذِّبُ أَيْ يُوقِعُ التَّكْذِيبَ لِمَنْ يُخْبِرُهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ
nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=1بِالدِّينِ أَيِ الْجَزَائِيِّ الَّذِي يَكُونُ يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي هُوَ مَحَطُّ الْحِكْمَةِ وَهُوَ غَايَةُ الدِّينِ التَّكْلِيفِيِّ الْآمِرِ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ النَّاهِي عَنْ سَيِّئِهَا، وَمِنْ كَذَّبَ بِأَحَدِهِمَا كَذَّبَ بِالْآخَرِ: وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى أَخْبَرَنِي، الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَانَ تَقْدِيرُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي: أَلَيْسَ جَدِيرًا بِالِانْتِقَامِ مِنْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ
أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ : لَمَّا تَضَمَّنَتِ السُّوَرُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنَ الْوَعِيدِ لِمَنِ انْطَوَى عَلَى مَا ذَكَرَ فِيهَا مِمَّا هُوَ جَارٍ عَلَى حُكْمِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الْكَائِنَيْنِ فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ مَا تَضَمَّنَتْ كَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=100&ayano=6إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=2إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=104&ayano=3يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ وَانَجْرَّ أَثْنَاءَ ذَلِكَ مِمَّا تُثِيرُهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَوَّلِيَّةُ مَا ذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا كَالشَّغْلِ
[ ص: 277 ] بِالتَّكَاثُرِ، وَالطَّعْنِ عَلَى النَّاسِ وَلَمْزِهِمْ وَالِاغْتِرَارِ الْمُهْلِكِ أَصْحَابَ الْفِيلِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ صِفَاتٍ قَدْ تُوجَدُ فِي الْمُنْتَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ يُوجَدُ بَعْضُهَا أَوْ أَعْمَالُ مَنْ يَتَّصِفُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا كَدَعِّ الْيَتِيمِ، وَهُوَ دَفْعُهُ عَنْ حَقِّهِ وَعَدَمُ الرِّفْقِ بِهِ، وَعَدَمُ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَالتَّغَافُلِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالسَّهْوِ عَنْهَا، وَالرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَاجَاتِ الَّتِي يَضْطَرُّ فِيهَا النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَضَمَّنَ إِبْهَامَ الْمَاعُونِ هَذَا كُلَّهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تُوجَدُ فِي الْمُتَّسِمِينَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ [مِنْ] صِفَاتِ مَنْ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْجَزَاءَ وَالْحِسَابَ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُهَا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=650033أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا " وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=652295لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ " وَهَذَا الْبَابُ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ بَسَطْتُهُ فِي كِتَابِ "إِيضَاحِ السَّبِيلِ مِنْ حَدِيثِ سُؤَالِ
جِبْرِيلَ " فَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عِنْدِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=1أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ nindex.php?page=tafseer&surano=107&ayano=2فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أَيْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ دَفْعِ الْيَتِيمِ وَبُعْدِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ الْحَضِّ عَلَى إِطْعَامِهِ وَالسَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالْمُرَاءَاةِ بِالْأَعْمَالِ وَمَنْعِ الْحَاجَاتِ إِنَّ
[ ص: 278 ] هَذِهِ كُلَّهَا مِنْ شَأْنِ الْمُكَذِّبِ بِالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ نَفْعَ الْبُعْدِ عَنْهَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ، فَمَنْ صَدَّقَ بِهِ جَرَى فِي هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى السُّنَنِ الْمَشْكُورِ وَالسَّعْيِ الْمَبْرُورِ، وَمَنْ كَذَّبَ بِهِ لَمْ يُبَالِ بِهَا وَتَأَبَّطَ جَمِيعَهَا، فَتَنَزَّهُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَنْهَا، فَلَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِكُمْ فِي أَصْلِ إِيمَانِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ عَلَيْهِ، فَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، فَاحْذَرُوا هَذِهِ الرَّذَائِلَ فَإِنَّ دَعَّ الْيَتِيمِ مِنَ الْكِبَرِ الَّذِي أَهْلَكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ، وَعَدَمُ الْحَضِّ عَلَى إِطْعَامِهِ فَإِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْبَخِيلِ الَّذِي يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، وَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلَوَاتِ مِنْ ثَمَرَاتِ إِلْهَاءِ التَّكَاثُرِ، وَالشَّغْلُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَنَهَى عِبَادَهُ عَنْ هَذِهِ الرَّسَائِلِ الَّتِي يُثْمِرُهَا مَا تَقَدَّمَ وَالْتَحَمَتِ السُّوَرُ - انْتَهَى.