ولما تم ذلك؛ تشوفت النفوس إلى بيان مقادير الاستحقاق بالإرث لكل واحد؛ وكان قد تقدم ذكر استحقاق الرجال؛ والنساء؛ من غير تقييد يتيم؛ فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث؛ وشفاء العليل؛ بإيضاح أمرها؛ فقال - مستأنفا في جواب من كأنه سأل عن ذلك؛ مؤكدا لما أمر به منها؛ غاية التأكيد؛ مشيرا إلى عظمة هذا العلم؛ بالتقدم في الإيصاء في أول آياته؛ والتحذير من الضلال في آخرها؛ ورغب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه نصف العلم؛ وحذر من إضاعته بأنه أول علم ينزع من الأمة -: يوصيكم الله ؛ أي: بما له من [ ص: 204 ] العظمة الكاملة؛ والحكمة البالغة؛ وبدأ بالأولاد؛ لأن تعلق الإنسان بهم أشد؛ فقال: في أولادكم ؛ أي: إذا مات مورثهم.
ولما كان هذا مجملا؛ كان بحيث يطلب تفسيره؛ فقال - جوابا لذلك؛ بادئا بالأشرف بيانا؛ لفضله بالتقديم؛ وجعله أصلا - والتفصيل: للذكر ؛ أي: منهم؛ إذا كان معه شيء من الإناث؛ ولم يمنعه مانع من قتل؛ ولا مخالفة دين؛ ونحوه؛ مثل حظ الأنثيين ؛ أي: نصيب؛ من شأنه أن يغني؛ ويسعد؛ وهو الثلثان؛ إذا انفردتا؛ فللواحدة معه الثلث؛ فأثبت - سبحانه - للإناث حظا؛ تغليظا لهم في منعهن مطلقا؛ ونقصهن عن نصيب الرجال؛ تعريضا بأنهم أصابوا في نفس الحكم؛ بإنزالهن عن درجة الرجال.
ولما بان سهم الذكر؛ مع الأنثى؛ بعبارة النص؛ وأشعر ذلك بأن لهن إرثا في الجملة؛ وعند الاجتماع مع الذكر؛ وفهم بحسب إشارة النص - وهي ما ثبت بنظمه؛ لكنه غير مقصود؛ ولا سبق له النص - حكم الأنثيين؛ إذا لم يكن معهما ذكر؛ وهو أن لهما الثلثين؛ وكان ذلك أيضا مفهما لأن الواحدة إذا كان لها مع الأخ الثلث؛ كان لها ذلك مع الأخت؛ إذا لم يكن ثم ذكر من باب الأولى؛ [ ص: 205 ] فاقتضى ذلك أنهن إذا كن ثلاثا؛ أو أكثر؛ ليس معهن ذكر؛ استغرقن التركة؛ وإن كانت واحدة؛ ليس معها ذكر؛ لم تزد على الثلث; بين أن الأمر ليس كذلك - كما تقدم – بقوله - مبينا إرثهن حال الانفراد -: فإن كن ؛ أي: الوارثات؛ نساء ؛ أي: إناثا؛ ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع؛ وهو اثنتان؛ حقيقة؛ أو مجازا؛ حقق؛ ونفى هذا الاحتمال؛ بقوله: فوق اثنتين ؛ أي: لا ذكر معهن؛ فلهن ثلثا ما ترك ؛ أي: الميت؛ لا أزيد من الثلثين؛ وإن كانت ؛ أي: الوارثة؛ واحدة ؛ أي: منفردة؛ ليس معها غيرها؛ فلها النصف ؛ أي: فقط؛ ولما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم؛ إذا كانوا صغارا؛ وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد؛ وأحقهم بصلته؛ وأشدهم اتصالا به أتبعه حكمه؛ فقال: ولأبويه ؛ أي: الميت؛ ثم فصل بعد أن أجمل؛ ليكون الكلام آكد؛ ويكون سامعه إليه أشوق؛ بقوله - مبدلا بتكرير العامل -: لكل واحد منهما ؛ أي: أبيه؛ وأمه؛ اللذين ثنيا بـ "أبوين"؛ [ ص: 206 ] السدس مما ترك ؛ ثم بين شرط ذلك؛ فقال: إن كان له ؛ أي: الميت؛ ولد ؛ أي: ذكر؛ فإن كانت أنثى؛ أخذ الأب السدس فرضا؛ والباقي بعد الفروض؛ حق عصوبة.
ولما بين حكمهما مع الأولاد؛ تلاه بحالة فقدهم؛ فقال: فإن لم يكن له ولد ؛ أي: ذكر؛ ولا أنثى؛ وورثه أبواه ؛ أي: فقط؛ فلأمه الثلث ؛ أي: وللأب الباقي؛ لأن الفرض أنه لا وارث له غيرهما؛ ولما كان التقدير: "هذا مع فقد الإخوة أيضا"؛ بنى عليه قوله: فإن كان له إخوة ؛ أي: اثنان فصاعدا؛ ذكورا؛ أو لا؛ مع فقد الأولاد؛ فلأمه السدس ؛ أي: لأن الإخوة ينقصونها عن الثلث إليه؛ والباقي للأب؛ ولا شيء لهم؛ وأما الأخت الواحدة؛ فإنها لا تنقصها إلى السدس؛ سواء كانت وارثة؛ أو لا؛ وكذا الأخ إذا كان واحدا؛ ثم بين أن هذا كله بعد إخراج الوصية؛ والدين؛ لأن ذلك سبق فيه حق الميت؛ الذي جمع المال؛ فقال: من بعد وصية يوصي بها ؛ أي: كما مندوب لكل ميت؛ وقدمها في الوضع على ما هو مقدم عليها في الشرع؛ بعثا على أدائها؛ لأن أنفس الورثة تشح بها؛ لكونها مثل مشاركتهم في الإرث؛ لأنها بلا عوض؛ أو دين ؛ أي: إن كان [ ص: 207 ] عليه دين.
ولما كان الإنسان قد يرى أن بعض أقربائه من أصوله؛ أو فصوله؛ أو غيرهم؛ أنفع له؛ فأحب تفضيله؛ فتعدى هذه الحدود؛ لما رآه؛ وكان ما رآه خلاف الحق في الحال؛ أو في المآل؛ وكان الله (تعالى) هو المستأثر بعلم ذلك؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: الحديث؛ لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن؛ يقلبها كيف شاء; قال (تعالى) حاثا على لزوم ما حده؛ مؤكدا بالجملة الاعتراضية - كما هو الشأن في كل اعتراض - لأن هذه القسمة مخالفة لما كانت "أحبب حبيبك هونا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يوما ما"؛ العرب تفعله؛ وهي على وجوه؛ لا تدرك عللها: آباؤكم وأبناؤكم ؛ أي: الذين فصلنا لكم إرثهم على ما ذكرنا؛ لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ؛ أي: من غيره؛ لأنه لا إحاطة لكم في علم؛ ولا قدرة؛ فلو وكل الأمر في القسمة إليكم لما وضعتم الأمور في أحكم مواضعها.
ولما بين أن الإرث على ما حده - سبحانه وتعالى - مؤكدا له بلفظ الوصية؛ وزاده تأكيدا بما جعله اعتراضا بين الإيصاء؛ وبين "فريضة"؛ بين أنه على سبيل الحتم؛ الذي من تركه عصى؛ فقال - ذاكرا مصدرا [ ص: 208 ] مأخوذا من معنى الكلام -: فريضة من الله ؛ أي: الذي له الأمر كله؛ ثم زادهم حثا على ذلك ورغبة فيه؛ بقوله - تعليلا لفريضته عليهم مطلقا؛ وعلى هذا الوجه -: إن الله ؛ أي: المحيط علما؛ وقدرة؛ كان ؛ ولم يزل؛ ولا يزال؛ لأن وجوده لا يتفاوت في وقت من الأوقات؛ لأنه لا يجري عليه زمان؛ ولا يحويه مكان؛ لأنه خالقهما؛ عليما ؛ أي: بالعواقب؛ حكيما ؛ أي: فوضع لكم هذه الأحكام؛ على غاية الإحكام؛ في جلب المنافع لكم؛ ودفع الضر عنكم؛ ورتبها - سبحانه وتعالى - أحسن ترتيب؛ فإن الوارث يتصل بالميت تارة بواسطة؛ وهو الكلالة؛ وأخرى بلا واسطة؛ وهذا تارة يكون بنسب؛ وتارة بصهر ونسب؛ فقدم ما هو بلا واسطة؛ لشدة قربه؛ وبدأ منه بالنسب؛ لقوته؛ وبدأ منهم بالولد؛ لمزيد الاعتناء به.