ولما كثر في هذه الآيات الأمر بمقاساة الشدائد؛ وتجرع مرارات الأذى؛ واقتحام الحروب؛ واستهانة عظائم الكروب؛ والحث على المعارف الإلهية؛ والآداب الشرعية من الأصول؛ والفروع؛ انخلاعا من المألوفات؛ [ ص: 168 ] إلى ما يأمر به - سبحانه - من الطاعات؛ وختم بتجرع فرقة من أهل الكتاب لتلك المرارات؛ كانت نتيجة ذلك - لا محالة - قوله (تعالى) - منبها على عظمة ما يدعو إليه؛ لأنه شامل لجميع الآداب -: يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: بكل ما ذكرنا في هذه السورة؛ اصبروا ؛ أي: أوقعوا الصبر؛ تصديقا لإيمانكم على كل ما ينبغي الصبر عليه؛ مما تكرهه النفوس؛ مما دعتكم إليه الزهراوان؛ وصابروا ؛ أي: أوجدوا المصابرة للأعداء من الكفار؛ والمنافقين؛ وسائر العصاة؛ فلا يكونن على باطلهم أصبر منكم على حقكم؛ ورابطوا ؛ أي: بأن تربطوا في الثغور خيلا بإزاء ما لهم من الخيول؛ إرهابا لهم؛ وحذرا منهم - هذا أصله؛ ثم صار الرباط يطلق على المكث في الثغور؛ لأجل الذب عن الدين؛ ولو لم تكن خيول؛ بل وتطلق على المحافظة على الطاعات -؛ ثم أمر بملاك ذلك كله فقال: واتقوا الله ؛ أي: في جميع ذلك؛ بأن تكونوا مراقبين له؛ مستحضرين لجميع ما يمكنكم أن تعلموه؛ من عظمته؛ بنعمته؛ ونقمته؛ لعلكم تفلحون ؛ أي: ليكون حالكم حال من يرجى فلاحه؛ وظفره؛ بما يريد من النصر على الأعداء؛ والفوز بعيش الشهداء؛ وهذه الآية - كما ترى - معلمة بشرط استجابة الدعاء بالنصرة على الكافرين؛ [ ص: 169 ] المختتم به "البقرة": لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ؛ داعية إلى تذكير أولي الألباب بالمراقبة للواحد الحي القيوم؛ الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض؛ ولا في السماء؛ في اتباع آياته؛ ومعاداة أعدائه؛ كما أن التي قبلها فيمن آمن بجميع الكتب؛ هذا القرآن المصدق لما بين يديه؛ والتوراة؛ والإنجيل؛ كل ذلك للفوز بالفرقان بالنصر؛ وتعذيب أهل الكفر بأيديهم؛ تمكينا من الله؛ والله عزيز ذو انتقام؛ ردا للمقطع على المطلع؛ على أحسن وجه - والله أعلم بالصواب؛ وعنده حسن المآب.