وينتقل بهم من مشهد التأنيب في الآخرة، فيعود بهم إلى الدنيا من جديد! يعود بهم ليسأل ويعجب من موقفهم ذاك الغريب.. ما الذي يصدهم عن الإيمان بما جاءهم به رسولهم الأمين؟ ما الشبهات التي تحيك في صدورهم فتصدهم عن الهدى؟ ما حجتهم في الإعراض عنه، والسمر في مجالسهم بقالة السوء فيه؟ وهو الحق الخالص والطريق المستقيم:
nindex.php?page=treesubj&link=28994_18648_30549_32438nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=68أفلم يدبروا القول؟ أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين؟ nindex.php?page=treesubj&link=28994_30549_30612nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=69أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون؟ nindex.php?page=treesubj&link=28994_29786_30549_31788_32024_34212nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=70أم يقولون به جنة؟ بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون! nindex.php?page=treesubj&link=28994_29786_30549nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن. بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون. nindex.php?page=treesubj&link=28994_30495_30614_34513nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=72أم تسألهم خرجا؟ فخراج ربك خير وهو خير الرازقين. nindex.php?page=treesubj&link=28994_34274nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=73وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم. nindex.php?page=treesubj&link=28994_30539nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=74وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ..
إن مثل ما جاء به
محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يملك من يتدبره أن يظل معرضا عنه، ففيه من الجمال، وفيه من الكمال، وفيه من التناسق، وفيه من الجاذبية، وفيه من موافقة الفطرة، وفيه من الإيحاءات الوجدانية، وفيه من غذاء القلب، وفيه من زاد الفكر، وفيه من عظمة الاتجاهات، وفيه من قويم المناهج، وفيه من محكم التشريع.. وفيه من كل شيء ما يستجيش كل عناصر الفطرة ويغذيها ويلبيها
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=68أفلم يدبروا القول إذن؟ فهذا سر إعراضهم عنه لأنهم لم يتدبروه..
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=68أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين؟ .. فكان بدعا في مألوفهم ومألوف آبائهم أن يجيئهم رسول! أو أن يجيئهم بكلمة التوحيد! وذلك تاريخ الرسالات كلها يثبت أن الرسل جاءوا قومهم تترى، وكلهم جاء بالكلمة الواحدة التي يدعوهم إليها هذا الرسول!
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=69أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون؟ .. ويكون هذا هو سر الإعراض والتكذيب! ولكنهم يعرفون رسولهم حق المعرفة. يعرفون شخصه ويعرفون نسبه، ويعرفون أكثر من أي أحد صفاته: يعرفون صدقه وأمانته حتى لقد لقبوه قبل الرسالة بالأمين!
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=70أم يقولون به جنة؟ كما كان بعض سفهائهم يقولون; وهم على ثقة أنه العاقل الكامل، الذي لا يعرفون عنه زلة في تاريخه الطويل؟
إنه ما من شبهة من هذه الشبهات يمكن أن يكون لها أصل. إنما هي كراهية أكثرهم للحق، لأنه يسلبهم القيم الباطلة التي بها يعيشون، ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=70بل جاءهم بالحق، وأكثرهم للحق كارهون ..
[ ص: 2475 ] والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى; وبالحق تقوم السماوات والأرض، وبالحق يستقيم الناموس، وتجري السنن في هذا الكون وما فيه ومن فيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ..
فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة. وبالحق الواحد يدبر الكون كله، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة. ولو خضع الكون للأهواء العارضة، والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس; وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى، والكره والبغض، والرغبة والرهبة، والنشاط والخمول.. وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات.. وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد، على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد.
ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءا من الناموس الكوني، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه جميعا. والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير; فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، ويدبره في تناسق عجيب. بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير.
وهذه الأمة التي جاء لها الإسلام كانت أولى الأمم باتباع الحق الذي يتمثل فيه. ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها وذكر. وما كان لها من ذكر لولاه في العالمين:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ..
وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام. وقد ظل ذكرها يدوي في آذان القرون طالما كانت به مستمسكة. وقد تضاءل ذكرها عند ما تخلت عنه، فلم تعد في العير ولا في النفير. ولن يقوم لها ذكر إلا يوم أن تفيء إلى عنوانها الكبير ... !
وبعد هذا الاستطراد بمناسبة دعواهم على الحق الذي جاءهم فأعرضوا عنه واتهموه.. يعود السياق إلى استنكار موقفهم، وإلى مناقشة الشبهات التي يمكن أن تصدهم عما جاءهم به الرسول الأمين:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=72أم تسألهم خرجا؟ فهم يفرون مما تسألهم من أجر على الهداية والتعليم؟! فإنك لا تطلب إليهم شيئا، فما عند ربك خير مما عندهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=72فخراج ربك خير وهو خير الرازقين ..وماذا يطمع نبي أن ينال من البشر الضعاف الفقراء المحاويج وهو متصل بالفيض اللدني الذي لا ينضب ولا يغيض; بل ماذا يطمع أتباع نبي أن ينالوا من عرض هذه الأرض وهم معلقو الأنظار والقلوب بما عند الله الذي يرزق بالكثير وبالقليل؟ ألا إنه يوم يتصل القلب بالله يتضاءل هذا الكون كله، بما فيه وكل من فيه!
ألا إنما تطلب هدايتهم إلى المنهج القويم:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=73وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم يصلهم بالناموس الذي يحكم فطرتهم، ويصلهم بالوجود كله، ويقودهم في قافلة الوجود، إلى الخالق الوجود، في استقامة لا تحيد.
ألا وإنهم - ككل من لا يؤمنون بالآخرة - حائدون عن النهج ضالون عن الطريق:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=74وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون .. فلو كانوا مهتدين لتابعوا بقلوبهم وعقولهم أطوار النشأة التي تحتم الإيمان
[ ص: 2476 ] بالآخرة، وبالعالم الذي يسمح ببلوغ الكمال الممكن، وتحقيق العدل المرسوم. فليست الآخرة إلا حلقة من حلقات الناموس الشامل الذي ارتضاه الله لتدبير هذا الوجود.
هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين تنكبوا الطريق، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة، ولا الابتلاء بالنقمة. فإن أصابتهم النعمة حسبوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=55أنما نمدهم به من مال وبنين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=56نسارع لهم في الخيرات وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم، ولم تستيقظ ضمائرهم، ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون.
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=75ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=76ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=77حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ..
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس، القاسية قلوبهم، الغافلين عن الله، المكذبين بالآخرة، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
والاستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله، والشعور بأنه الملجأ والملاذ. والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان، واستيقظ وتذكر، وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل، وأفاد من المحنة وانتفع بالبلاء. فأما حين يسدر في غيه، ويعمه في ضلاله، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح، وهو متروك لعذاب الآخرة، الذي يفاجئه، فيسقط في يده، ويبلس ويحتار، وييأس من الخلاص.
ثم يجول معهم جولة أخرى علها توقظ وجدانهم إلى دلائل الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق من حولهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=78وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة. قليلا ما تشكرون. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=79وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=80وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار. أفلا تعقلون؟ ..
ولو تدبر الإنسان خلقه وهيئته، وما زود به من الحواس والجوارح، وما وهبه من الطاقات والمدارك لوجد الله، ولاهتدى إليه بهذه الخوارق الدالة على أنه الخالق الواحد. فما أحد غير الله بقادر على إبداع هذه الخلقة المعجزة في الصغير منها وفي الكبير.
هذا السمع وحده وكيف يعمل؟ كيف يلتقط الأصوات ويكيفها؟ وهذا البصر وحده وكيف يبصر؟
وكيف يلتقط الأضواء والأشكال؟ وهذا الفؤاد ما هو؟ وكيف يدرك؟ وكيف يقدر الأشياء والأشكال، والمعاني والقيم والمشاعر والمدركات؟
إن مجرد معرفة طبيعة هذه الحواس والقوى وطريقة عملها، يعد كشفا معجزا في عالم البشر. فكيف بخلقها وتركيبها على هذا النحو المتناسق مع طبيعة الكون الذي يعيش فيه الإنسان; ذلك التناسق الملحوظ الذي لو اختلت نسبة واحدة من نسبه في طبيعة الكون أو طبيعة الإنسان لفقد الاتصال، فما استطاعت أذن أن تلتقط صوتا، ولا استطاعت عين أن تلتقط ضوءا. ولكن القدرة المدبرة نسقت بين طبيعة الإنسان وطبيعة الكون الذي يعيش فيه، فتم هذا الاتصال. غير أن الإنسان لا يشكر على النعمة:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=78قليلا ما تشكرون .. والشكر يبدأ بمعرفة واهب النعمة، وتمجيده بصفاته، ثم عبادته وحده; وهو الواحد الذي تشهد بوحدانيته آثاره
[ ص: 2477 ] في صنعته. ويتبعه استخدام هذه الحواس والطاقات في تذوق الحياة والمتاع بها، بحس العابد لله في كل نشاط وكل متاع.
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=79وهو الذي ذرأكم في الأرض .. فاستخلفكم فيها، بعد ما زودكم بالسمع والأبصار والأفئدة; وأمدكم بالاستعدادات والطاقات الضرورية لهذه الخلافة..
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=79وإليه تحشرون .. فيحاسبكم على ما أحدثتم في هذه الخلافة من خير وشر، ومن صلاح وفساد، ومن هدى وضلال. فلستم بمخلوقين عبثا، ولا متروكين سدى; إنما هي الحكمة والتدبير والتقدير.
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=80وهو الذي يحيي ويميت .. والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله يملك الموت والحياة فالبشر - أرقى الخلائق - أعجز من بث الحياة في خلية واحدة، وأعجز كذلك من سلب الحياة سلبا حقيقيا عن حي من الأحياء. فالذي يهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها. والبشر قد يكونون سببا وأداة لإزهاق الحياة، ولكنهم هم ليسوا الذين يجردون الحي من حياته على وجه الحقيقة. إنما الله هو الذي يحيي ويميت، وحده دون سواه.
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=80وله اختلاف الليل والنهار .. فهو الذي يملكه ويصرفه - كاختلاف الموت والحياة - وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة. هذه في النفوس والأجساد، وهذه في الكون والأفلاك. وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم جسده ويهمد، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن. ثم تكون حياة ويكون ضياء، يختلف هذا على ذاك، بلا فتور ولا انقطاع إلا أن يشاء الله..
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=80أفلا تعقلون؟ وتدركون ما في هذا كله من دلائل على الخالق المدبر، المالك وحده لتصريف الكون والحياة؟
وهنا يعدل عن خطابهم وجدالهم، ليحكي مقولاتهم عن البعث والحساب، بعد كل هذه الدلائل والآيات:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=81بل قالوا مثل ما قال الأولون. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=82قالوا: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=83لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل. إن هذا إلا أساطير الأولين ..
وتبدو هذه القولة مستنكرة غريبة بعد تلك الآيات والدلائل الناطقة بتدبير الله، وحكمته في الخلق، فقد وهب الإنسان السمع والبصر والفؤاد ليكون مسؤولا عن نشاطه وعمله، مجزيا على صلاحه وفساده; والحساب والجزاء يكونان على حقيقتها في الآخرة، فالمشهود في هذه الأرض أن الجزاء قد لا يقع، لأنه متروك إلى موعده هناك.
والله يحيي ويميت; فليس شيء من أمر البعث بعسير، والحياة تدب في كل لحظة، وتنشأ من حيث لا يدري إلا الله.
ولم يكف هؤلاء أن تقصر مداركهم عن إدراك حكمة الله، وقدرته على البعث، فإذا هم يسخرون مما يوعدون من البعث والجزاء. أن كان هذا الوعد قد قيل لهم ولآبائهم من قبل، ولم يقع بعد!
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=83لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل. إن هذا إلا أساطير الأولين ..
والبعث متروك لموعده الذي ضربه الله له، وفق تدبيره وحكمته، لا يستقدم ولا يستأخر، تلبية لطلب جيل من أجيال الناس، أو استهزاء جماعة من الغافلين المحجوبين!
وَيَنْتَقِلُ بِهِمْ مِنْ مَشْهَدِ التَّأْنِيبِ فِي الْآخِرَةِ، فَيَعُودُ بِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا مِنْ جَدِيدٍ! يَعُودُ بِهِمْ لِيَسْأَلَ وَيَعْجَبَ مِنْ مَوْقِفِهِمْ ذَاكَ الْغَرِيبِ.. مَا الَّذِي يَصُدُّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمُ الْأَمِينُ؟ مَا الشُّبَهَاتُ الَّتِي تَحِيكُ فِي صُدُورِهِمْ فَتَصُدُّهُمْ عَنِ الْهُدَى؟ مَا حُجَّتُهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَالسَّمَرِ فِي مَجَالِسِهِمْ بَقَّالَةِ السُّوءِ فِيهِ؟ وَهُوَ الْحَقُّ الْخَالِصُ وَالطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ:
nindex.php?page=treesubj&link=28994_18648_30549_32438nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=68أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ؟ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ؟ nindex.php?page=treesubj&link=28994_30549_30612nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=69أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟ nindex.php?page=treesubj&link=28994_29786_30549_31788_32024_34212nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=70أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ! nindex.php?page=treesubj&link=28994_29786_30549nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ. بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ. nindex.php?page=treesubj&link=28994_30495_30614_34513nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=72أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا؟ فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرٌ الرَّازِقِينَ. nindex.php?page=treesubj&link=28994_34274nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=73وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. nindex.php?page=treesubj&link=28994_30539nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=74وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ..
إِنَّ مِثْلَ مَا جَاءَ بِهِ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ مَنْ يَتَدَبَّرُهُ أَنْ يَظَلَّ مُعْرِضًا عَنْهُ، فَفِيهِ مِنَ الْجَمَالِ، وَفِيهِ مِنَ الْكَمَالِ، وَفِيهِ مِنَ التَّنَاسُقِ، وَفِيهِ مِنَ الْجَاذِبِيَّةِ، وَفِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ، وَفِيهِ مِنَ الْإِيحَاءَاتِ الْوِجْدَانِيَّةِ، وَفِيهِ مِنْ غِذَاءِ الْقَلْبِ، وَفِيهِ مِنْ زَادِ الْفِكْرِ، وَفِيهِ مِنْ عَظَمَةِ الِاتِّجَاهَاتِ، وَفِيهِ مِنْ قَوِيمِ الْمَنَاهِجِ، وَفِيهِ مِنْ مُحْكَمِ التَّشْرِيعِ.. وَفِيهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَسْتَجِيشُ كُلَّ عَنَاصِرِ الْفِطْرَةِ وَيُغَذِّيهَا وَيُلَبِّيهَا
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=68أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ إِذَنْ؟ فَهَذَا سِرُّ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ لَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَدَبَّرُوهُ..
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=68أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ؟ .. فَكَانَ بِدَعًا فِي مَأْلُوفِهِمْ وَمَأْلُوفِ آبَائِهِمْ أَنْ يَجِيئَهُمْ رَسُولٌ! أَوْ أَنْ يَجِيئَهُمْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ! وَذَلِكَ تَارِيخُ الرِّسَالَاتِ كُلِّهَا يُثْبِتُ أَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا قَوْمَهُمْ تَتْرَى، وَكُلَّهُمْ جَاءَ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا هَذَا الرَّسُولُ!
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=69أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟ .. وَيَكُونُ هَذَا هُوَ سِرُّ الْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ! وَلَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ رَسُولَهُمْ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ. يَعْرِفُونَ شَخْصَهُ وَيَعْرِفُونَ نَسَبَهُ، وَيَعْرِفُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ صِفَاتَهُ: يُعَرِّفُونَ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ حَتَّى لَقَدْ لَقَّبُوهُ قَبْلَ الرِّسَالَةِ بِالْأَمِينِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=70أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ؟ كَمَا كَانَ بَعْضُ سُفَهَائِهِمْ يَقُولُونَ; وَهُمْ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّهُ الْعَاقِلُ الْكَامِلُ، الَّذِي لَا يَعْرِفُونَ عَنْهُ زَلَّةً فِي تَارِيخِهِ الطَّوِيلِ؟
إِنَّهُ مَا مِنْ شُبْهَةٍ مِنْ هَذِهِ الشُّبَهَاتِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَصْلٌ. إِنَّمَا هِيَ كَرَاهِيَةُ أَكْثَرِهِمْ لِلْحَقِّ، لَأَنَّهُ يَسْلُبُهُمُ الْقِيَمَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي بِهَا يَعِيشُونَ، وَيَصْدِمُ أَهْوَاءَهُمُ الْمُتَأَصِّلَةَ الَّتِي بِهَا يَعْتَزُّونَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=70بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ..
[ ص: 2475 ] وَالْحُقُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدُورَ مَعَ الْهَوَى; وَبِالْحَقِّ تَقُومُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَبِالْحَقِّ يَسْتَقِيمُ النَّامُوسُ، وَتَجْرِي السُّنَنُ فِي هَذَا الْكَوْنِ وَمَا فِيهِ وَمِنْ فِيهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ..
فَالْحُقُّ وَاحِدٌ ثَابِتٌ، وَالْأَهْوَاءُ كَثِيرَةٌ مُتَقَلِّبَةٌ. وَبِالْحَقِّ الْوَاحِدِ يُدَبَّرُ الْكَوْنُ كُلُّهُ، فَلَا يَنْحَرِفُ نَامُوسُهُ لِهَوًى عَارِضٍ، وَلَا تَتَخَلَّفُ سُنَّتُهُ لِرَغْبَةٍ طَارِئَةٍ. وَلَوْ خَضَعَ الْكَوْنُ لِلْأَهْوَاءِ الْعَارِضَةِ، وَالرَّغَبَاتِ الطَّارِئَةِ لَفَسَدَ كُلُّهُ، وَلَفَسَدَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَفَسَدَتِ الْقِيَمُ وَالْأَوْضَاعُ، وَاخْتَلَّتِ الْمَوَازِينُ وَالْمَقَايِيسُ; وَتَأَرْجَحَتْ كُلُّهَا بَيْنَ الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَالْكُرْهِ وَالْبُغْضِ، وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالنَّشَاطِ وَالْخُمُولِ.. وَسَائِرِ مَا يَعْرِضُ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْمَوَاجِدِ وَالِانْفِعَالَاتِ وَالتَّأَثُّرَاتِ.. وَبِنَاءُ الْكَوْنِ الْمَادِّيِّ وَاتِّجَاهُهُ إِلَى غَايَتِهِ كِلَاهُمَا فِي حَاجَةٍ إِلَى الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالِاطِّرَادِ، عَلَى قَاعِدَةٍ ثَابِتَةٍ، وَنَهْجٍ مَرْسُومٍ، لَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يَتَأَرْجَحُ وَلَا يَحِيدُ.
وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْكُبْرَى فِي بِنَاءِ الْكَوْنِ وَتَدْبِيرِهِ، جَعَلَ الْإِسْلَامُ التَّشْرِيعَ لِلْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ جُزْءًا مِنَ النَّامُوسِ الْكَوْنِيِّ، تَتَوَلَّاهُ الْيَدُ الَّتِي تُدَبِّرُ الْكَوْنَ كُلَّهُ وَتُنَسِّقُ أَجْزَاءَهُ جَمِيعًا. وَالْبَشَرُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ خَاضِعٌ لِنَامُوسِهِ الْكَبِيرِ; فَأَوْلَى أَنْ يُشَرِّعَ لِهَذَا الْجُزْءِ مِنْ يُشَرِّعُ لِلْكَوْنِ كُلِّهِ، وَيُدَبِّرُهُ فِي تَنَاسُقٍ عَجِيبٍ. بِذَلِكَ لَا يَخْضَعُ نِظَامُ الْبَشَرِ لِلْأَهْوَاءِ فَيَفْسَدُ وَيَخْتَلُّ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ إِنَّمَا يَخْضَعُ لِلْحَقِّ الْكُلِّيِّ، وَلِتَدْبِيرِ صَاحِبِ التَّدْبِيرِ.
وَهَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي جَاءَ لَهَا الْإِسْلَامُ كَانَتْ أَوْلَى الْأُمَمِ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِيهِ. فَفَوْقَ أَنَّهُ الْحَقُّ هُوَ كَذَلِكَ مَجْدٌ لَهَا وَذِكْرٌ. وَمَا كَانَ لَهَا مِنْ ذِكْرٍ لَوْلَاهُ فِي الْعَالَمِينَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ..
وَقَدْ ظَلَّتْ أُمَّةُ الْعَرَبِ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي تَارِيخِ الْعَالَمِ حَتَّى جَاءَهَا الْإِسْلَامُ. وَقَدْ ظَلَّ ذِكْرُهَا يُدَوِّي فِي آذَانِ الْقُرُونِ طَالَمَا كَانَتْ بِهِ مُسْتَمْسِكَةً. وَقَدْ تَضَاءَلَ ذِكْرُهَا عِنْدَ مَا تَخَلَّتْ عَنْهُ، فَلَمْ تَعُدْ فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ. وَلَنْ يَقُومَ لَهَا ذَكَرٌ إِلَّا يَوْمَ أَنْ تَفِيءَ إِلَى عُنْوَانِهَا الْكَبِيرِ ... !
وَبَعْدَ هَذَا الِاسْتِطْرَادِ بِمُنَاسَبَةِ دَعْوَاهُمْ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَاتَّهَمُوهُ.. يُعَوِّدُ السِّيَاقُ إِلَى اسْتِنْكَارِ مَوْقِفِهِمْ، وَإِلَى مُنَاقَشَةِ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَصُدَّهُمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ الْأَمِينُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=72أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا؟ فَهُمْ يَفِرُّونَ مِمَّا تَسْأَلُهُمْ مَنْ أَجْرٍ عَلَى الْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيمِ؟! فَإِنَّكَ لَا تَطْلُبُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، فَمَا عِنْدَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا عِنْدَهُمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=72فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرٌ الرَّازِقِينَ ..وَمَاذَا يَطْمَعُ نَبِيٌّ أَنْ يَنَالَ مِنَ الْبَشَرِ الضِّعَافِ الْفُقَرَاءِ الْمَحَاوِيجِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْفَيْضِ اللَّدُنِّيِّ الَّذِي لَا يَنْضُبُ وَلَا يَغِيضُ; بَلْ مَاذَا يَطْمَعُ أَتْبَاعُ نَبِيٍّ أَنْ يَنَالُوا مِنْ عَرَضِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَهُمْ مُعَلِّقُو الْأَنْظَارِ وَالْقُلُوبِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي يَرْزُقُ بِالْكَثِيرِ وَبِالْقَلِيلِ؟ أَلَا إِنَّهُ يَوْمَ يَتَّصِلُ الْقَلْبُ بِاللَّهِ يَتَضَاءَلُ هَذَا الْكَوْنُ كُلُّهُ، بِمَا فِيهِ وَكُلُّ مِنْ فِيهِ!
أَلَا إِنَّمَا تَطْلُبُ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=73وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَصِلُهُمْ بِالنَّامُوسِ الَّذِي يَحْكُمُ فِطْرَتَهُمْ، وَيَصِلُهُمْ بِالْوُجُودِ كُلِّهِ، وَيَقُودُهُمْ فِي قَافِلَةِ الْوُجُودِ، إِلَى الْخَالِقِ الْوُجُودِ، فِي اسْتِقَامَةٍ لَا تَحِيدُ.
أَلَا وَإِنَّهُمْ - كَكُلِّ مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ - حَائِدُونَ عَنِ النَّهْجِ ضَالُّونَ عَنِ الطَّرِيقِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=74وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ .. فَلَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ لَتَابَعُوا بِقُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ أَطْوَارَ النَّشْأَةِ الَّتِي تُحَتِّمُ الْإِيمَانَ
[ ص: 2476 ] بِالْآخِرَةِ، وَبِالْعَالَمِ الَّذِي يَسْمَحُ بِبُلُوغِ الْكَمَالِ الْمُمْكِنِ، وَتَحْقِيقِ الْعَدْلِ الْمَرْسُومِ. فَلَيْسَتِ الْآخِرَةُ إِلَّا حَلْقَةً مِنْ حَلَقَاتِ النَّامُوسِ الشَّامِلِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِتَدْبِيرِ هَذَا الْوُجُودِ.
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَالَّذِينَ تَنْكَبُّوا الطَّرِيقَ، لَا يُفِيدُهُمُ الِابْتِلَاءُ بِالنِّعْمَةِ، وَلَا الِابْتِلَاءُ بِالنِّقْمَةِ. فَإِنْ أَصَابَتْهُمُ النِّعْمَةُ حَسِبُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=55أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=56نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ وَإِنْ أَصَابَتْهُمُ النِّقْمَةُ لَمْ تَلِنْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ تَسْتَيْقِظْ ضَمَائِرُهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ يَتَضَرَّعُونَ لَهُ لِيَكْشِفَ عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَظَلُّونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا هُمْ حَائِرُونَ يَائِسُونَ.
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=75وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=76وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=77حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ..
وَهَذِهِ صِفَةٌ عَامَّةٌ لِذَلِكَ الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ، الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمُ، الْغَافِلِينَ عَنِ اللَّهِ، الْمُكَذِّبِينَ بِالْآخِرَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَانُوا يُوَاجِهُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالِاسْتِكَانَةُ وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ مَسِّ الضُّرِّ دَلِيلٌ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، وَالشُّعُورِ بِأَنَّهُ الْمَلْجَأُ وَالْمَلَاذُ. وَالْقَلْبُ مَتَى اتَّصَلَ بِاللَّهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ رَقَّ وَلَانَ، وَاسْتَيْقَظَ وَتَذَكَّرَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَسَاسِيَةُ هِيَ الْحَارِسُ الْوَاقِي مِنَ الْغَفْلَةِ وَالزَّلَلِ، وَأَفَادَ مِنَ الْمِحْنَةِ وَانْتَفَعَ بِالْبَلَاءِ. فَأَمَّا حِينُ يَسْدَرُ فِي غَيِّهِ، وَيَعْمَهُ فِي ضَلَالِهِ، فَهُوَ مَيْؤُوسٌ مِنْهُ لَا يُرْجَى لَهُ صَلَاحٌ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ، الَّذِي يُفَاجِئُهُ، فَيَسْقُطُ فِي يَدِهِ، وَيُبْلِسُ وَيَحْتَارُ، وَيَيْأَسُ مِنَ الْخَلَاصِ.
ثُمَّ يَجُولُ مَعَهُمْ جَوْلَةً أُخْرَى عَلَّهَا تُوقِظُ وِجْدَانَهُمْ إِلَى دَلَائِلِ الْإِيمَانِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْآفَاقِ مِنْ حَوْلِهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=78وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ. قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=79وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=80وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ ..
وَلَوْ تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ خَلْقَهُ وَهَيْئَتَهُ، وَمَا زُوِّدَ بِهِ مِنَ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ، وَمَا وَهَبَهُ مِنَ الطَّاقَاتِ وَالْمَدَارِكِ لَوَجَدَ اللَّهَ، وَلَاهْتَدَى إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْخَوَارِقِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْخَالِقُ الْوَاحِدُ. فَمَا أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ بِقَادِرٍ عَلَى إِبْدَاعِ هَذِهِ الْخِلْقَةِ الْمُعْجِزَةِ فِي الصَّغِيرِ مِنْهَا وَفِي الْكَبِيرِ.
هَذَا السَّمْعُ وَحْدَهُ وَكَيْفَ يَعْمَلُ؟ كَيْفَ يَلْتَقِطُ الْأَصْوَاتَ وَيُكَيِّفُهَا؟ وَهَذَا الْبَصَرُ وَحْدَهُ وَكَيْفَ يُبْصِرُ؟
وَكَيْفَ يَلْتَقِطُ الْأَضْوَاءَ وَالْأَشْكَالَ؟ وَهَذَا الْفُؤَادُ مَا هُوَ؟ وَكَيْفَ يُدْرِكُ؟ وَكَيْفَ يُقَدِّرُ الْأَشْيَاءَ وَالْأَشْكَالَ، وَالْمَعَانِيَ وَالْقِيَمَ وَالْمَشَاعِرَ وَالْمُدْرَكَاتِ؟
إِنَّ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةِ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْحَوَاسِّ وَالْقُوَى وَطَرِيقَةِ عَمَلِهَا، يَعُدُّ كَشْفًا مُعْجِزًا فِي عَالَمِ الْبَشَرِ. فَكَيْفَ بِخَلْقِهَا وَتَرْكِيبِهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمُتَنَاسِقِ مَعَ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ الْإِنْسَانُ; ذَلِكَ التَّنَاسُقُ الْمَلْحُوظُ الَّذِي لَوِ اخْتَلَّتْ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ نَسَبِهِ فِي طَبِيعَةِ الْكَوْنِ أَوْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ لَفَقَدَ الِاتِّصَالَ، فَمَا اسْتَطَاعَتْ أُذُنٌ أَنْ تَلْتَقِطَ صَوْتًا، وَلَا اسْتَطَاعَتْ عَيْنٌ أَنْ تَلْتَقِطَ ضَوْءًا. وَلَكِنَّ الْقُدْرَةَ الْمُدَبِّرَةَ نَسَّقَتْ بَيْنَ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَطَبِيعَةِ الْكَوْنِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ، فَتَمَّ هَذَا الِاتِّصَالُ. غَيْرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْكُرُ عَلَى النِّعْمَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=78قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ .. وَالشُّكْرُ يَبْدَأُ بِمَعْرِفَةٍ وَاهِبِ النِّعْمَةِ، وَتَمْجِيدِهِ بِصِفَاتِهِ، ثُمَّ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ; وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي تَشْهَدُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ آثَارُهُ
[ ص: 2477 ] فِي صَنْعَتِهِ. وَيُتْبِعُهُ اسْتِخْدَامُ هَذِهِ الْحَوَاسِّ وَالطَّاقَاتِ فِي تَذَوُّقِ الْحَيَاةِ وَالْمَتَاعِ بِهَا، بِحِسِّ الْعَابِدِ لِلَّهِ فِي كُلِّ نَشَاطٍ وَكُلِّ مَتَاعٍ.
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=79وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ .. فَاسْتَخْلَفَكُمْ فِيهَا، بَعْدَ مَا زَوَّدَكُمْ بِالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ; وَأَمَدَّكُمْ بِالِاسْتِعْدَادَاتِ وَالطَّاقَاتِ الضَّرُورِيَّةِ لِهَذِهِ الْخِلَافَةِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=79وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ .. فَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى مَا أَحْدَثْتُمْ فِي هَذِهِ الْخِلَافَةِ مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمِنْ صَلَاحٍ وَفَسَادٍ، وَمَنْ هَدًى وَضَلَالٍ. فَلَسْتُمْ بِمَخْلُوقِينَ عَبَثًا، وَلَا مَتْرُوكِينَ سُدًى; إِنَّمَا هِيَ الْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالتَّقْدِيرُ.
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=80وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ .. وَالْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ حَادِثَانِ يَقَعَانِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَلَيْسَ إِلَّا اللَّهُ يَمْلِكُ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ فَالْبَشَرُ - أَرْقَى الْخَلَائِقِ - أَعْجَزُ مَنْ بَثِّ الْحَيَاةِ فِي خَلِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَعْجَزُ كَذَلِكَ مَنْ سَلْبِ الْحَيَاةِ سَلْبًا حَقِيقِيًّا عَنْ حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ. فَالَّذِي يَهَبُ الْحَيَاةَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ سِرَّهَا، وَيَمْلِكُ أَنْ يَهَبَهَا وَيَسْتَرِدَّهَا. وَالْبَشَرُ قَدْ يَكُونُونَ سَبَبًا وَأَدَاةً لِإِزْهَاقِ الْحَيَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ هُمْ لَيْسُوا الَّذِينَ يُجَرِّدُونَ الْحَيَّ مِنْ حَيَاتِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ. إِنَّمَا اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ.
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=80وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .. فَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَصْرِفُهُ - كَاخْتِلَافِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ - وَهُوَ سَنَةٌ كَوْنِيَّةٌ كَسَنَةِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. هَذِهِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَجْسَادِ، وَهَذِهِ فِي الْكَوْنِ وَالْأَفْلَاكِ. وَكَمَا يَسْلُبُ الْحَيَاةَ مِنَ الْحَيِّ فَيُعْتِمُ جَسَدُهُ وَيَهْمُدُ، كَذَلِكَ هُوَ يَسْلُبُ الضَّوْءَ مِنَ الْأَرْضِ فَتُعْتِمُ وَتَسْكُنُ. ثُمَّ تَكُونُ حَيَاةٌ وَيَكُونُ ضِيَاءٌ، يَخْتَلِفُ هَذَا عَلَى ذَاكَ، بِلَا فُتُورٍ وَلَا انْقِطَاعٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ..
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=80أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَتُدْرِكُونَ مَا فِي هَذَا كُلِّهِ مِنْ دَلَائِلَ عَلَى الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ، الْمَالِكِ وَحْدَهُ لِتَصْرِيفِ الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ؟
وَهُنَا يَعْدِلُ عَنْ خِطَابِهِمْ وَجِدَالِهِمْ، لِيَحْكِيَ مَقُولَاتِهِمْ عَنِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=81بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=82قَالُوا: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=83لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ. إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ..
وَتَبْدُو هَذِهِ الْقَوْلَةُ مُسْتَنْكَرَةٌ غَرِيبَةٌ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ النَّاطِقَةِ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ، وَحِكْمَتِهِ فِي الْخَلْقِ، فَقَدْ وَهَبَ الْإِنْسَانَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ لِيَكُونَ مَسْؤُولًا عَنْ نَشَاطِهِ وَعَمَلِهِ، مَجْزِيًّا عَلَى صَلَاحِهِ وَفَسَادِهِ; وَالْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ يَكُونَانِ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي الْآخِرَةِ، فَالْمَشْهُودُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ أَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ لَا يَقَعُ، لَأَنَّهُ مَتْرُوكٌ إِلَى مَوْعِدِهِ هُنَاكَ.
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ; فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ بِعَسِيرٍ، وَالْحَيَاةُ تَدِبُّ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَتَنْشَأُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي إِلَّا اللَّهُ.
وَلَمْ يَكْفِ هَؤُلَاءِ أَنْ تَقْصُرَ مَدَارِكُهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ حِكْمَةِ اللَّهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ، فَإِذَا هُمْ يَسْخَرُونَ مِمَّا يُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. أَنْ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ قَدْ قِيلَ لَهُمْ وَلِآبَائِهِمْ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ!
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=83لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ. إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ..
وَالْبَعْثُ مَتْرُوكٌ لِمَوْعِدِهِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُ، وَفْقَ تَدْبِيرِهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا يَسْتَقْدِمُ وَلَا يَسْتَأْخِرُ، تَلْبِيَةً لِطَلَبِ جِيلٍ مِنْ أَجْيَالِ النَّاسِ، أَوِ اسْتِهْزَاءِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْغَافِلِينَ الْمَحْجُوبِينَ!