وفي ختام السورة - وختام الحديث الطويل عن قضية التشريع والحاكمية - تجيء التسبيحة الندية الرخية ، في إيقاع حبيب إلى النفس قريب ; وفي تقرير كذلك حاسم فاصل . . ويتكرر الإيقاع الموحي في كل آية : " قل " . . " قل " . . " قل " . . ويلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد . . توحيد الصراط والملة . توحيد المتجه والحركة . توحيد الإله والرب . توحيد العبودية والعبادة . . مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته .
قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين . قل : أغير الله أبغي ربا ، وهو رب كل شيء ، ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم ، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم . إن ربك سريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم . .
هذا التعقيب كله ، الذي يؤلف مع مطلع السورة لحنا رائعا باهرا متناسقا ، هو تعقيب ينتهي به الحديث عن قضية الذبائح والنذور والثمار ، وما تزعمه الجاهلية بشأنها من شرائع ، تزعم أنها من شرع الله افتراء على الله . . فأية دلالة يعطيها هذا التعقيب؟ إنها دلالة لا تحتاج بعد ما سبق من البيان إلى مزيد . .
قل : إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم . دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين . .
إنه الإعلان الذي يوحي بالشكر ، ويشي بالثقة ، ويفيض باليقين . . اليقين في بناء العبادة اللفظي ودلالتها المعنوية ، والثقة بالصلة الهادية . . صلة الربوبية الموجهة المهيمنة الراعية . . والشكر على الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي لا التواء فيه ولا عوج : دينا قيما . . وهو دين الله القديم منذ إبراهيم . أبي هذه الأمة المسلمة المبارك المخلص المنيب : ملة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين .
قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له . وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . .
إنه التجرد الكامل لله ، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة . بالصلاة والاعتكاف . وبالمحيا والممات . بالشعائر التعبدية ، وبالحياة الواقعية ، وبالممات وما وراءه .
[ ص: 1241 ] إنها تسبيحة " التوحيد " المطلق ، والعبودية الكاملة ، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات ، وتخلصها لله وحده . لله " رب العالمين " . . القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين . . في " إسلام " كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله ، ولا يحتجز دونه شيئا في الضمير ولا في الواقع . . " وبذلك أمرت " . . فسمعت وأطعت : " وأنا أول المسلمين " .
قل : أغير الله أبغي ربا ، وهو رب كل شيء ، ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون؟ . .
كلمة تتقصى السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن ; وتشتمل كل مخلوق مما يعلم الإنسان ومما يجهل ; وتجمع كل حادث وكل كائن في السر والعلانية . . ثم تظللها كلها بربوبية الله الشاملة لكل كائن في هذا الكون الهائل ; وتعبدها كلها لحاكمية الله المطلقة عقيدة وعبادة وشريعة .
ثم تعجب في استنكار :
أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ؟
أغير الله أبغي ربا يحكمني ويصرف أمري ويهيمن علي ويقومني ويوجهني؟ وأنا مأخوذ بنيتي وعملي ، محاسب على ما أكسبه من طاعة ومعصية ؟
أغير الله أبغي ربا . وهذا الكون كله في قبضته ; وأنا وأنتم في ربوبيته؟
أغير الله أبغي ربا وكل فرد مجزي بذنبه لا يحمله عنه غيره؟ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ . .
أغير الله أبغي ربا وإليه مرجعكم جميعا فيحاسبكم على ما كنتم تختلفون فيه؟
أغير الله أبغي ربا ، وهو الذي استخلف الناس في الأرض ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في العقل والجسم والرزق ; ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟
أغير الله أبغي ربا ، وهو سريع العقاب ، غفور رحيم لمن تاب؟
أغير الله أبغي ربا ، فأجعل شرعه شرعا ، وأمره أمرا ، وحكمه حكما . وهذه الدلائل والموحيات كلها حاضرة ; وكلها شاهدة ; وكلها هادية إلى أن الله وحده هو الرب الواحد المتفرد؟؟؟
إنها تسبيحة التوحيد الرخية الندية ; يتجلى من خلالها ذلك المشهد الباهر الرائع . مشهد الحقيقة الإيمانية ، كما هي في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مشهد لا يعبر عن روعته وبهائه إلا التعبير القرآني الفريد . .
إنه الإيقاع الأخير في السياق الذي استهدف قضية الحاكمية والشريعة ; يجيء متناسقا مع الإيقاعات الأولى في السورة ، تلك التي استهدفت قضية العقيدة والإيمان ; من ذلك قوله تعالى : قل : أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل : إني أمرت أن أكون أول من أسلم ، ولا تكونن من المشركين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين . . وغيرها في السورة كثير . .
ولا نحتاج أن نكرر ما قلناه مرارا من دلالة هذه المثاني التي تردد في المطالع والختام . فهي صور متنوعة [ ص: 1242 ] للحقيقة الواحدة . . الحقيقة التي تبدو مرة في صورة عقيدة في الضمير . وتبدو مرة في صورة منهج للحياة . . وكلتا الصورتين تعنيان حقيقة واحدة في مفهوم هذا الدين . .
ولكننا نتلفت الآن - وقد انتهى سياق السورة - على المدى المتطاول ، والمساحة الشاسعة ، والأغوار البعيدة . . تلك التي تتراءى فيها أبعاد السورة - ما سبق منها في الجزء السابع وما نواجهه منها في هذا الجزء - فإذا هو شيء هائل هائل . . وننظر إلى حجم السورة ، فإذا هي كذا صفحة ، وكذا آية ، وكذا عبارة . . ولو كان هذا في كلام البشر ما اتسعت هذه الرقعة لعشر معشار هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والمؤثرات والموحيات ; في مثل هذه المساحة المحدودة ! . . وذلك فضلا على المستوى المعجز الذي تبلغه هذه الحقائق بذاتها ، والذي يبلغه التعبير عنها كذلك . .
ألا إنها رحلة شاسعة الآماد ، عميقة الأغوار ، هائلة الأبعاد هذه التي قطعناها مع السورة . . رحلة مع حقائق الوجود الكبيرة . . رحلة تكفي وحدها لتحصيل " مقومات التصور الإسلامي " !
حقيقة الألوهية بروعتها وبهائها وجلالها وجمالها . .
وحقيقة الكون والحياة وما وراء الكون والحياة من غيب مكنون ، ومن قدر مجهول ، ومن مشيئة تمحو وتثبت ، وتنشئ وتعدم ، وتحيي وتميت ، وتحرك الكون والأحياء والناس كما تشاء .
وحقيقة النفس الإنسانية ، بأغوارها وأعماقها ، ودروبها ومنحنياتها ، وظاهرها وخافيها ، وأهوائها وشهواتها ، وهداها وضلالها ، وما يوسوس لها من شياطين الإنس والجن . وما يقود خطواتها من هدى أو ضلال . .
ومشاهد قيامة ، ومواقف حشر ، ولحظات كربة وضيق ، ولحظات أمل واستبشار . ولقطات من تاريخ الإنسان في الأرض ; ولقطات من تاريخ الكون والحياة .
وحشود وحشود من هذه المجالي التي لا نملك تلخيصها في هذه العجالة . والتي لا تعبر عنها إلا السورة نفسها ، في سياقها الفريد ، وفي أدائها العجيب .
إنه الكتاب " المبارك " . . وهذه - بلا شك - واحدة من بركاته الكثيرة . . والحمد لله رب العالمين . .