ثم يتجه بالخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يثبته على ما أنزل عليه من الحق، وما آتاه من الآيات البينات، مقررا أنه لا يكفر بهذه الآيات إلا الفاسقون المنحرفون. ويندد ببني إسرائيل الذين لا يستقيمون على عهد . سواء عهودهم مع ربهم وأنبيائهم من قبل، أو عهودهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما [ ص: 94 ] يندد بنبذهم لكتاب الله الأخير الذي جاء مصدقا لما معهم:
ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون، أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم؟ بل أكثرهم لا يؤمنون. ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون ... ..
لقد فالطبيعة المستقيمة لا يسعها إلا الإيمان بتلك الآيات. وهي تفرض نفسها فرضا على القلب المستقيم. كشف القرآن هنا عن علة كفر بني إسرائيل بتلك الآيات البينات التي أنزلها الله.. إنه الفسوق وانحراف الفطرة.
فإذا كفر بها اليهود - أو غيرهم - فليس هذا لأنه لا مقنع فيها ولا حجة، ولكن لأنهم هم فاسدو الفطرة فاسقون.
ثم يلتفت إلى المسلمين - وإلى الناس عامة - منددا بهؤلاء اليهود ، كاشفا عن سمة من سماتهم الوبيئة.. إنهم جماعة مفككة الأهواء - رغم تعصبها الذميم - فهم لا يجتمعون على رأي، ولا يثبتون على عهد، ولا يستمسكون بعروة. ومع أنهم متعصبون لأنفسهم وجنسهم، يكرهون أن يمنح الله شيئا من فضله لسواهم، إلا أنهم - مع هذا - لا يستمسكون بوحدة، ولا يحفظ بعضهم عهد بعض، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تنبذ منهم فرقة فتنقض ما أبرموا، وتخرج على ما أجمعوا:
أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم؟ بل أكثرهم لا يؤمنون ..
وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل ، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد، وأخيرا نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أول مقدمه إلى المدينة ; وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معينة، بينما كانوا هم أول من أعان عليه أعداءه; وأول من عاب دينه، وحاول بث الفرقة والفتنة في الصف المسلم، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه..
وبئس هي من خلة في اليهود ! تقابلها في المسلمين خلة أخرى على النقيض، يعلنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: .. يسعى بذمتهم أدناهم، فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد، ولا ينقض أحد عقده إذا أبرم، ولقد كتب المسلمون تتكافؤ دماؤهم، وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم - رضي الله عنه - وهو قائد لجيش أبو عبيدة - رضي الله عنه - وهو الخليفة يقول: إن عبدا أمن أهل بلد عمر بالعراق .
وسأله رأيه. فكتب إليه : إن الله عظيم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا.. فوفوا لهم وانصرفوا عنهم.. عمر
وهذه سمة الجماعة الكريمة المتماسكة المستقيمة. وذلك فرق ما بين أخلاق اليهود الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين.
101 - ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ..
وكان هذا مظهرا من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه. فلقد كان ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم، أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه، وأن ينصروه ويحترموه. فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، خاسوا بذلك العهد، ونبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم، يستوي في هذا النبذ كتاب الله الذي معهم، والذي يتضمن البشرى بهذا النبي وقد نبذوه، والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقد [ ص: 95 ] نبذوه أيضا! وفي الآية ما فيها من سخرية خفية، يحملها ذلك النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. فلو كانوا هم المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوما! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب. هم الذين عرفوا الرسالات والرسل. هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور.. وماذا صنعوا؟
إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم! والمقصود طبعا أنهم جحدوه وتركوا العمل به، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم. ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس ويمثل عملهم بحركة مادية متخيلة، تصور هذا التصرف تصويرا بشعا زريا، ينضح بالكنود والجحود، ويتسم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحة ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة. حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور..