قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء
قال استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه الصلاة والسلام حينئذ؟ فقيل: قال رب لم يخاطب الملك المنادي له بملابسة أنه المباشر للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى، بل جرى على نهج دعائه السابق مبالغة في التضرع والمناجاة وجدا في التبتل إليه تعالى واحترازا عما عسى يوهم [ ص: 33 ] خطاب الملك من توهم أن علمه سبحانه بما يصدر عنه يتوقف على توسطه كما يتوقف وقوف البشر على ما يصدر عنه سبحانه على توسطه في عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه في بعضها.
أنى يكون لي غلام فيه دلالة على أنه قد أخبر بكونه غلاما عند التبشير كما في قوله تعالى: إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى و "أنى" بمعنى كيف أو من أين، و "كان" تامة، و "أنى" و "اللام" متعلقتان بها وتقديم الجار على الفاعل لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر، أي: كيف أو من أين يحدث لي غلام؟ ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من "غلام" إذ لو تأخر لكان صفة له أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما (أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر و "أنى" منصوب على الظرفية. وقد بلغني الكبر حال من ياء المتكلم، أي: أدركني كبر السن و أثر في كقولهم: أدركته السن و أخذته السن، وفيه دلالة على أن كبر السن من حيث كونه من طلائع الموت طالب للإنسان لا يكاد يتركه. قيل: كان له تسع وتسعون سنة. وقيل: اثنتان وتسعون. وقيل: مائة وعشرون. وقيل: ستون. وقيل: خمس وستون. وقيل: سبعون. وقيل: خمس وسبعون. وقيل: خمس وثمانون ولامرأته ثمان وتسعون. وامرأتي عاقر أي: ذات عقر، و هو أيضا حال من ياء "لي" عند من يجوز تعدد الحال أو من ياء "بلغني" أي: كيف يكون لي ذلك؟ والحال أني و امرأتي على حالة منافية له كل المنافاة، وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه، لاسيما بعد مشاهدته عليه الصلاة والسلام للشواهد السالفة استعظاما لقدرة الله سبحانه وتعجيبا منها واعتدادا بنعمته عز وجل عليه في ذلك لا استبعادا له. وقيل: بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة وكان قد نسي دعاءه وهو بعيد. وقيل: كان ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه. قال استئناف كما سلف. كذلك إشارة إلى مصدر "يفعل" في قوله عز وجل الله يفعل ما يشاء أي: ما يشاء أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقة للعادات، فـ "الله" مبتدأ و "يفعل" خبره و "الكاف" في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف، أي: الله يفعل ما يشاء أن يفعله فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر، فقدم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه، و اعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة، وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا أو على أنها حال من ضمير المصدر المقدر معرفة، أي: يفعل الفعل كائنا مثل ذلك أو في محل الرفع على أنها خبر و الجلالة مبتدأ، أي: على نحو هذا الشأن البديع شأن الله تعالى، و يفعل ما يشاء بيان لذلك الشأن المبهم أو "كذلك" خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك وقوله تعالى: الله يفعل ما يشاء بيان له.